مقالات رأي

‌القرآن ‌الكريم ‌وعاء اللغة العربية – يوسف الحزيمري

نزل القرآن الكريم من عند الله بواسطة جبريل عليه السلام على قلب نبيه محمد العربي، قال تعالى: {وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُّبِين} [الشعراء: 192-195]، وقال أيضا: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡۖ} [إبراهيم: 4]، وهذه كرامة للأنبياء عليهم السلام، أن جعل الوحي الإلهي بلغة قومهم لترتفع الحجة بعدم الفهم أو عدم العقل، قال تعالى: {إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} [يوسف: 2]، قال مقاتل بن سليمان: “لو كان القرآن غير عربي ما فهموه ولا عقلوه”.

لكن العرب فهموا القرآن وعقلوا معانيه، وعرفوا دعوته، وأنه لا يصدر عن قول بشر ولا جن، وهو ما صرح به “الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ “في مجلس بني مخزوم لما سمعه فقال: “والله، لقد سمعت من محمد كلاما آنفا ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن…”، وقصته مشهورة في السيرة، قال أبو عبيدة البصري: “فلم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألوا عن معانيه لأنهم كانوا عرب الألسن، فاستغنوا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه، وعما فيه مما في كلام العرب مثله من الوجوه والتلخيص، وفى القرآن مثل ما في الكلام العربي من وجوه الإعراب، ومن الغريب، والمعاني”.[«مجاز القرآن» (1/ 8)]

والقرآن الكريم دستور المسلمين وقانونهم، ورسالة عالمية، جاءت بلغة العرب، وتوسعت دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، فأثبت أنها لغة خالدة بخلود القرآن وحفظه من عند الله، وهو الذي حفظها وزادها قوةً وحياةً، قال أبو عبيد القاسم بن سلام: وجعل كتابه قانوناً لهم، وأمرهم بالعملِ بما فيه، والاهتداء بهديه، ولا سبيلَ إلى فهم هذا الكتابِ العظيم، ولا إلى معرفَة كلامِ خاتم المرسلين، إلَاّ بمعرفة اللُّغة العربية ودراستها، لذا كان تعلُّمهَا من الأمور المطلوبة، والسنن المحبوبة، وقد استنبط بعضُ العلماء من قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]، أنَ تعلُّمَ اللغات أفضل من التفرُّغ والتخلي للعبادة، إذ لما علَّم الله آدمَ أسماء المسميات كلَّها أمر الملائكة الذين يعبدونه في كلِّ طرفةِ عينٍ أن يسجدوا لأدم لهذه المزية»[«الغريب المصنف – قطعة ضمن مجلة الجامعة الإسلامية» (1/ 246)].

وإن من المواضيع التي ينبغي أن تثار وتكون موضع اهتمام على جل المستويات: (العناية باللغة العربية، لغة القرآن، وعاء الدين، والاعتزاز بها، وتعلمها، وتعليمها، ونشرها، والحفاظ عليها، والدفاع عنها).

وقديما كنا نسمع من أساتذتنا “صحح عربيتك بالقرآن، ولا تصحح القرآن بعربيتك”، وشذونا في هذا الطريق وعلمنا أن القرآن الكريم وإن كان نزل بلغة العرب، فلغته خاصة، ووجدنا مصداق ذلك لدى العلماء، في كتب التفسير واللغة ومثال ذلك قول أبي زيد الأنصاري: «ويقال نهر ونهور. قال أبو حاتم نهر وأنهار وهي ‌لغة ‌القرآن»[«النوادر في اللغة لأبي زيد الأنصاري» (ص590)]، وفي شروح الحديث: «(فانقلعت) ولفظ البخاري: فأقلعت. وهو ‌لغة ‌القرآن. أي فأمسكت السحابة الماطرة عن المدينة الطاهرة»[«صحيح مسلم» (2/ 614 ت عبد الباقي)]، وفي [«الكامل في اللغة والأدب» (3/ 16)]: «كما تقول: حكيم وحكماء، وعليم وعلماء وأنبياء ‌لغة ‌القرآن والرسول ، وقال السَّمين الحلبي: قوله تعالى: {هَآؤُمُ}: أي: خُذُوا. وفيها لغاتٌ…، فتقول: هاءَ يا زيدُ، وهاءِ يا هندُ، هاؤُما، هاؤُم، هاؤُنَّ، وهي ‌لغةُ ‌القرآن». [«الدر المصون في علوم الكتاب المكنون» (10/ 432)] ومن ثم كان يرجع في التفسير إلى ‌لغة ‌القرآن، أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك.

إذا كان القرآن الكريم وعاء العربية وصمام أمانها وحرزها، وكما نقول في دعائنا: (اللهم احفظنا بحفظ القرآن)، فهي محفوظة به، لكننا لا ينبغي أن نتكل على هذا الحفظ، وندع الأسباب في تعلمها وتعليمها وجعلها لغة التواصل بيننا نحن أبناؤها، أو مع غيرنا، لأن الأمانة على أعناقنا في تبليغ هذه الدعوة إلى العالمين، فكيف تتم هذه الدعوة ونحن لما لم نحسن لغتنا، ويقول الأصوليون: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).

 ونختم هذه المقالة بفائدة فقهية جاء في [«المدونة» (4/ 497)]: «قُلْت: فَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ: لَسْت مِنْ الْعَرَبِ. أَلَيْسَ يُحَدُّ فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟قَالَ: نَعَمْ.»

أخبار / مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى