مقالات رأي

آخر ما كتب تحت الأرض… أول من ختم القرآن في جلسة واحدة – محمد غازي

لم يكن حديث الدكتور عبد الرحمن زكي حمد عن شقيقه الراحل محمد زكي حمد مجرّد استعادة لذكريات شخصية، بل كان أشبه بفتح نافذة على عالم يتكوّن من نور المصحف، ورائحة الأرض الرطبة، وصوت السكون في الأنفاق.

في برنامج “جسر بودكاست” الذي بثّته قناة “سما القدس” يوم الجمعة 11 دجنبر 2025 على منصة “اليوتيوب”، روى عبد الرحمن تفاصيل سيرة شابٍ جمع بين حفظ القرآن ووهج المواجهة، وبين العلم والعمل في ظروف قاسية وصعبة لا يعلم وجعها إلا من سمع ورأى وهج المتفجّرات والقنابل وهي تهبط على رؤوس الناس وسط حصار أليم مُبيد.

وأكد الدكتور عبد الرحمن زكي حمد، رئيس قسم غزة والضفة في هيئة علماء فلسطين، أن شقيقه ألّف كتابه تحت راية الطوفان – خندق خباب تحت باطن الأرض – أي داخل الأنفاق – أثناء مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلية، من وحي يوميات المعـارك والأنفاق والمواجهة والحصار.

وأضاف عبد الرحمن خلال المقابلة، أن مؤلف الكتاب وُلد سنة 1994 واستُشهد سنة 2025، وأنه كان واحدًا من علماء غزة، حفظ القرآن الكريم وثبّته قبل أن يتجاوز العاشرة من عمره، وجمع حتى استشهاده بين الرباط في الثغور وطلب العلم وتعليمه.

وكان أول من ختم القرآن في جلسة واحدة، وسنّ هذه السنة في غزة، كما كان من مؤسسي مشروع الصفوة (صفوة الحفّاظ)، وأشرف على تخريج عشرات الطلاب على الطريقة نفسها.

وترأس الراحل أكاديمية دار القرآن والسنة الإلكترونية التابعة لدار القرآن الكريم والسنة النبوية في فلسطين، وهي منصة تمدّد نشاطها إلى نحو سبعين دولة، وتُدرِّس بلغات مختلفة بقصد تعميم هذه التجربة المتميزة في العالم.

كما نقل تجربة حفظ القرآن وتعليمه إلى التشكيلات الميدانية داخل غزة، وشكّل أول كتيبة للحفّاظ هناك، وكانت من أوائل من تصدّوا للهجوم الصهيوني في “طوفان الأقصى”، وهي كتيبة متميزة اختصّ جميع أفرادها بقدرتهم على سرد القرآن كاملًا في جلسة واحدة، وقد بلغ عددهم نحو ألفي شاب.

كان هذا الفتى في مقتبل العمر لا يترك قيام الليل؛ فإذا غلبه النوم في ليلة، قضاه في الليلة التالية، كما يروي أخوه عبد الرحمن، الذي أضاف أن شباب غزة تربّوا على المنوال نفسه.

محمد زكي كان عالِمًا غزيرًا وفيرًا، ونظرته للمجتمع كانت موسوعية، مما مكنه من تأليف عدة كتب، منها: كتاب “النيات والقربات في المهن والصناعات”، وأيضًا كتاب “القيم الإعلامية في الخطاب القرآني”.

وكتاب ألفه أثناء الحرب عنوانه: “أزمة كيان”، فصَّل ودلَّل فيه في حلقات عن الكيفية التي سيزول فيها الكيان المحتل وعوامل سقوطه من الداخل والخارج، كتب فيه عن أزمة السكن والجغرافيا وعن الأزمة الأمنية، عن الخلافات الداخلية، عن أزمة الهجرة العكسية، عن أزمة التكنولوجيا، وغيرها من المؤلفات التي تعكس ثراء فكره وعمق دراسته.

هذا الفقيه القوَّام، جمع بين الجدية والشجاعة والحزم والإقدام، فقد كان شجاعا سباقا إلى الاقتحامات ومواجهة العدو، أكرمه الله -بحسب أخيه عبد الرحمن- بعدة انتصارات على العدو، فقد داس عليه في أكثر من موقعة قتلا وإدلالا، كما تميز بالفكاهة والبسط بين أهله وأسرته واصلا لرحمه، رحيما دليلا فيهم، إلفا مألوفا، مؤنسا لمن جالسه، يمتلك روحا جميلة، كان في البيت محبوبا من الجميع سعى إلى إسعاد والديه وأهله.

إلى جانب عمله كإمام للمسجد أيضا كان محمد زكي أميرا فيه -رحمه الله-، وفكرة إمارة المسجد في غزة فكرة عبقرية كان لها دور كبير ومؤثر في صناعة وصياغة عقل الغزِّي، وهو ما جعل الكيان المحتل يضعها ضمن أولى أهدافه العسكرية تخريبا وتدميرا، نظرا لما تقوم به من تأطير الشباب والمجتمع، وتحفيظهم وتوجيههم، يتكون من عدة لجان كاللجنة الدعوية والاجتماعية والصحية والرياضية ولجنة لتحفيظ القرآن الكريم، كل لجنة تقوم بدورها كأنها دولة مصغرة.

حافظ القرآن هذا، ومعلمه، كان قائدًا في كتائب القسام، التحق بصفوفها وهو في السابعة عشر من عمره تقريبًا، واستشهد وهو ابن الحادية والثلاثين. قضى عمره مجاهدًا ومرابطًا في صفوف الكتائب، وساهم في حفر الأنفاق، وخضع لتدريبات عسكرية مكثفة ودقيقة. بفضل اجتهاده ومهاراته، تمكن من تصعيد مسيرته العسكرية، انتقل بفضل مثابرته من جندي إلى قائد زمرة، ثم قائد مجموعة قسامية، وبعد أن خاض عدة حروب وأثبت كفاءته العسكرية والإدارية أصبح قائد فصيل يشرف على منطقة عسكرية، ثم رقي إلى نائب قائد سرية قبل أن يُستشهد ويرتقي أخيرا إلى ربِّه.

ويروي ضيف حلقة “جسر بودكاست” أن القائد الشهيد كان يحمل معه كراسات وأوراقا وأقلامًا، يسجل فيها ما يلهمه الله أثناء خوضه المعارك في بيت حانون، في المنطقة الحدودية، بين الكمائن وصد هجمات العدو. ومن هذه الملاحظات والتجارب ألف كتابه المميز تحت راية الطوفان” – ” خندق خباب تحت باطن الأرض”.

كانت فترة مكوثه في الأنفاق رغم رطوبتها وظروف المعيشة القاسية والمرهقة، فرصة لهذا القائد القرآني لكتابة تأملاته وتوثيق علمه ورواية وقائع المواجهة وقصص بطولات المجاهدين الشباب، من واقع تجربته الميدانية ومما فتح الله عليه، عملا بوصية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ” إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها “.

ورغم أنه طلب من أخيه عبد الرحمن مراجعة عمله العلمي ونشره باسم مستعار اقتداءً بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ الحيطة من الرياء والسمعة، فقد قام الأخير بنشره باسمه تقديرًا لجهوده، بعد التأكد من أنه انتقل إلى جوار ربه، مضيفًا أن الجزء الأخير من الكتاب وصل إليه قبل أربعة أيام فقط من استشهاده.

وكما ذكر أخو الشهيد، تُرجِم الكتاب حتى الآن إلى ست لغات عالمية، ما يبرز أهميته العلمية والأكاديمية، حيث تتنافس دور النشر حاليًا للحصول على حقوقه، مستشهدا بما قاله سيد قطب -يضيف المتحدث- “إن كلماتنا ستبقى ميتةً لا حراك فيها هامدةً أعراساً من الشموع، فإذا متنا من أجلها انتفضت وعاشت بين الأحياء “.

أخبار / مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى