د. عبد العزيز الإدريسي يكتب : سُورة الإحسَان.. بصائر وهدايات 1/ 4

قَد يتساءل متَسائِل هل توجد في القُرآن العظيم سورة تُسمى سورة الإحسان؟ عِلما بأن تسمية السورة القرآنية هي تسمية توقيفية على مذهب أكثر العلماء، بيد أن بعض العلماء والباحثين اجتهدوا في تخصيص بعض السور بأوصاف أخرى ، فيوجد من وصف مثلا سورة الحجرات بكونها سورة “الأخلاق” أو سورة “التربية” ، كما أن تعدد أسماء السور يفتح الباب أمام تعدد الوصف والوسم.
وأثناء تدبري لسورة يوسف من خلال منهج المدارسة مع أبنائي التلاميذ وبناتي التّلميذات، وفي مجالس تربوية خاصة، لاستنباط هداياتها وبصائرها، جَعلني أخلص إلى أن الخُلق المحوري والمفهوم الجوهري والقِيمة المركَزية في سُورة يوسف هي “الإحسَان” ، و هذا لا يَعني أن سُورة يوسف خِلو من قيم أساسية أو أخلاق كبرى أو مفاهيم جوهرية، بل أكاد أجزم أن سورة يوسف من السّورة المكتنزة بمنظومة أخلاقية وقيم أساسية ومفاهيم جوهرية كثيرة يمكن أن نصل بها إلى أكثر من 111 خلقا و قيمة ومفهوما بعدد آيات هذه السّورة الكريمة الفريدة، ولذلك جاز لنا وصفها ووسمها بسورة الإحسان.
وقبل أن نُبين أن سورة يوسف هي سُورة الإحسان، نذكر بأن هذه السورة اللطيفة والفريدة والعظيمة هي السورة الوحيدة التي تضمنت قصّة كاملة من بدايتها إلى نهايتها لشخصية من الشخصيات بل لكريم الأنبياء وهو سَيدنا يوسف عليه السلام منذ ولادته إلى وفاته مرورا بطفولته وصباه، وشبابه وفتوته ورجولته وكهولته، وقد ورد اسم يوسف عليه السلام في القرآن الكريم سبعة وعشرين مرة، منها خمسة وعشرون في سورة يوسف فقط، ومرتان في سورتي الأنعام وغافر على سبيل الذكر لا القص.
وعُموما تتكون سورة يوسف عليه السلام من ثلاثة مقاطع كبرى وهي:
- المقطع الأول: من الآية 1إلى 3 وهو عبارة عن مقدمة عامة، ويتضمن وصف القرآن الكريم وذكر بعض وظائفه ومقاصده.
- أما المقطع الثاني: من الآية 4 إلى الآية 101 وهو قصة يوسف كاملة بمراحلها الثلاث:
- مرحلة الصبا والطفولة: من الآية 4 إلى الآية 21، ولها رمزان اثنان: رؤيا يوسف عليه السلام، وقميص الكذب والجفاء.
- مرحلة الشباب والفتوة: من الآية 22إلى الآية 42 ولها رمزان اثنان: رؤيا الشابين (الساقي والخباز) وقميص الصدق والبراء.
- مرحلة التمكين والرجولة: من الآية 43 إلى الآية 101 ولها رمزان اثنان: رؤيا الملك (ملك الهكسوس) وقميص البر الشفاء.
- المقطع الثالث: من الآية 102 إلى 111 آخر السورة عبارة عن خاتمة عامة وتتضمن إثبات نبوة محمد عليه الصلاة والسلام والرد على المشركين وبيان وظيفة القَصص القرآني.
إن هذه السورة العظيمة، و كل القرآن عظيم، تتضمن منظومة من القيم الأخلاقية التي تتبوثق في القيمة المركزية الحاكمة الإحسان، ويمكن إجمالها في : التوحيد، الإيمان، العبادة، الإسلام، الوفاء، الأمانة، الإصلاح، الصلاح، العمران، التزكية،الأمن، الاستئمان، الشهادة، التوكل ، العفو ، العفة ، العافية، اليقين المحبة، العدل، البر، الكفاءةـ، الصبر ، الحِلم، الصفح، البيان، المبادرة، الأدب، الحياء، الصدق، الصداقة، الحوار، التشاور، التفاوض، الاختلاف، التبصر، التفكر، التذكر، التعقل، العطاء، البذل، بر الوالدين، الكرم، النجدة، الفتوة، الأخوة، العلم، الخبرة، العمل، المسؤولية، المحاسبة، المراقبة، التوبة، الإنابة، الاتقان، الاتمام، النصح، الثبات، البراءة، الاعتصام ، الأمل ، التفاؤل، الاستقامة، الرشد، التسامح، اللين، الرفق، الانصاف، التفاهم،التغافل،كظم الغيظ، الوقاية، التقوى، الاتباع، الاقتداء، الدعاء، الهدى ، الإخلاص، ال…
هذه القيم والأخلاق وغيرها تشكل منظومة متكاملة لتحرير العقول وإصلاح القلوب وتزكية النفوس وترشيد السلوك، وأن القيمة الحاكمة لهذه القيم في هذه السورة هي قيمة الإحسان.
وعموما الإحسانُ هو: ” أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” كما في الحديث النبوي الشريف؛ والإحسان ضِدُّ الإساءةِ والإجرام، وهو فِعلُ ما ينبغي أن يُفعَلَ من الخيرِ والبِر، وهو مصدَر أحسَنَ، أي: جاء بفعلٍ حسَن، ويُقالُ على معنيينِ؛ أحَدُهما: متعَدٍّ بنفسِه، كقولِك: أحسَنْتُ كذا: إذا حسَّنْتَه وكمَّلْتَه. وثانيهما: متعَدٍّ بحَرفِ جَرٍّ، كقَولِك: أحسَنْتُ إلى كذا، أي: أوصَلْتُ إليه ما ينتَفِعُ به، ومن التعاريف اللطيفة ما أورده الإمام أبو القاء الكَفَويُّ: (الإحسانُ: هو فِعلُ ما ينفَعُ غيرَه بحيثُ يصيرُ الغيرُ حَسَنًا به، كإطعامِ الجائعِ، أو يصيرُ الفاعِلُ به حَسَنًا بنفسِه) في كتابه “الكليات : معجم في المصطلحات والفروق اللغوية”.
ومن أجمل ما كُتب عن الإحسان، ما أورده العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتابه “بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار”: الإحسان نوعان: – إحسان في عبادة الخالق، بأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه. وهو الجد في القيام بحقوق الله على وجه النصح والتكميل لها. – وإحسان في حقوق الخلق. وأصل الإحسان الواجب: أن تقوم بحقوقهم الواجبة، كالقيام ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والإنصاف في جميع المعاملات، بإعطاء جميع ما عليك من الحقوق، كما أنك تأخذ مالك وافيا، قال تعالى: ﴿واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم﴾ [النساء: 36] فأمر بالإحسان إلى جميع هؤلاء. ويدخل في ذلك الإحسان إلى جميع نوع الإنسان، والإحسان إلى البهائم، حتى في الحالة التي تزهق فيها نفوسها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة”. فمن استحق القتل لموجب قتل يضرب عنقه بالسيف، من دون تغرير ولا تمثيل … واعلم أن الإحسان المأمور به نوعان: – أحدهما: واجب، وهو الإنصاف، والقيام بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجب عليك من الحقوق. – والثاني: إحسان مستحب. وهو ما زاد على ذلك من بذل نفع بدني، أو مالي، أو علمي، أو توجيه لخير ديني، أو مصلحة دنيوية، فكل معروف صدقة، وكل ما أدخل السرور على الخلق صدقة وإحسان. وكل ما أزال عنهم ما يكرهون. ودفع عنهم ما لا يرتضون من قليل أو كثير، فهو صدقة وإحسان … فالإحسان: هو بذل جميع المنافع من أي نوع كان، لأي مخلوق يكون، ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسن إليهم، وحقهم ومقامهم، وبحسب الإحسان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحسن وإخلاصه، والسبب الداعي له إلى ذلك.. والله تعالى يوجب على عباده العدل من الإحسان، ويندبهم إلى زيادة الفضل منه”.
وقد وردت لفظ الإحسان ثماني مرات في سورة يوسف: بحيث وردت لفظة “أحسن” ثلاث مرات، في حين وردت لفظة “المحسنين” خمس مرات، وودت معنًى عشرات المرات، وسنقتصر على الآي التي وردت فيها لفظا فقط، وقد نخصص مكتوبا آخر للورود الآخَر.
وهي بالترتيب كالآتي:
الآية 3:
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾
الآية 22 من سورة يوسف:
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾
الآية 23 من سورة يوسف:
﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هِيتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾
الآية 36من سورة يوسف:
الآية 56 من سورة يوسف:
الآية 78من سورة يوسف:
الآية 90 من سورة يوسف:
الآية 100من سورة يوسف:
﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ِإنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
يُتبع بحول الله تعالى




