مقالات رأي

خطبة الجمعة بين مسؤولية التبليغ ومهمة الإلقاء – أبو طه محمد العبدي

توطئة:
ختم الله تعالى برسالة الإسلام الرسالات، وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم النبوات، وأناط بورثته العدول تبليغ رسالته؛ حتى تستمر صافية نقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ويُعد منبر الجمعة أحد وسائل التبليغ، والدعوة الى سبيل الله.
أوجب الشارع الحكيم السعي اليها، ونهى عن التخلف عنها لغير ذوي الأعذار، ممن لا تتوفر فيهم شروط شهودها.

مقاصد صلاة الجمعة
لصلاة الجمعة مقاصد وغايات لابد من مراعاتها واستصحابها؛ أهمها إحياء النفوس بذكر الله، والاتعاظ بهدايات الوحي الالهي كتابا وسنة، وإيقاظ همم الناس، وتحسيسهم بقضايا أمتهم، وما يوحد صفها، ويحمي بيضتها، ويقوي بنيانها( إن هذه أمتكم أمة واحدة). فخطبة الجمعة ملتقى أسبوعي للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يرمز الى تضامنهم ووحدتهم ورسالتهم.

رسالة الخطيب:
خطيب الجمعة هو قطب رحى صلاة الجمعة ومحورها، وحرمة المنبر وهيبته ومسؤوليته تتطلب منه يقظة، وبذلا للجهد واستفراغا للوسع لإنجاح مهمته الخطابية إعدادا وإلقاء وتفاعلا، تذكيرا لنفسه وتأهيلا لذاته أولا، وإفادة لمخاطَبيه بالصدق المطلوب في القول والعمل.

ولذلك كان لزاما عليه أن يستحضر عِظم مسؤولية الكلمة والبلاغ، والسعيَ الى تجويد أدائه بتحرير كلامه وضبط محتوى خطبته، توثيقا لنصوصها، وفهما لدلالاتها، وتحريرا لمضامينها، قبل إفهامها وتبليغها. ومن متطلبات مسؤوليته أيضا فهم واقع الناس المخاطَبين، وأحوال بيئته ومجتمعه، وعاداته وأعرافه، وانشغالاته، وأهم أحداثه حتى تكون خطبته في السياق لا خارجه.

مهمة الخطيب بين التحرر المنضبط والتقييد المكبِّل.
الخطيب في جميع أرض الله لا يَصدر في خطبته عن غير أطر مرجعية، وتوجهات كبرى مؤطرة يمارس ضمنها قدرا معتبرا من الحرية تتيح له التفاعل مع واقعه ومحيطه، وأحداث بلده وأمته، فيختار من الموضوعات ما يراه الأنسب للزمان والمكان والناس، وما يناسبه قد لا يناسب غيره، وما تسمح به مؤهلاته وعلمه وخبرته، قد لا تتوفر لغيره، فلا ضير إذن في أن تتباين المنابر في أدائها ومردوديتها التبليغية والإصلاحية، ولذلك فمن غير الحكمة تنميطها وجعلها على وزان واحد، لجميع الناس وفي كل البيئات، ولجميع الخطباء، ومن الحكمة اقتراح نماذج من الخطب للاستئناس غير ملزمة، تكون سندا للضعيف، ويستأنس بها المجتهد القادر على إعداد خطبته التي يتحمل كامل مسؤوليته في مضمونها وأفكارها وأحكامها.
ومن شأن هذا التنوع أن يترك مجال البحث والاجتهاد مفتوحا للخطباء، ويمنع عنهم العجز والاتكالية وانتظار الجاهز الذي يُلقى على عواهنه، دون أدنى مساهمة في إعداده، ولا أقل استشارة في مضامينه وأفكاره.
إن الخطبة ليست كلاما جافا يُلقى  كيفما اتفق، بل هي تفاعل وجداني مع المخاطَبين، ومشاعر وأحاسيس يتقاسمها الخطيب مع رواد مسجده. فالخطيب ليس آلة  لإيصال الصوت، إنما هو ذات متفاعلة مع المقروء يُفترض فيه الاستيعاب والاقتناع بما سيصدر عنه؛ لمخاطبة الناس. ولذلك قد يعِنُّ له من الفهوم مالم يعِنَّ لغيره، فلماذا نحجر واسعا ، وننمط الجميع، ونجعلهم على وزان واحد؟!

إن الحياد المطلوب في الخطبة والخطيب له مدلول نسبي، من حيثُ إن للخطيب- خاصة اذا كان من أهل النظر- كما لغيره ممن أعد الخطبة الموحدة- قناعاته الخاصة، وآراؤه واجتهاداته وتقديراته، ولذلك فلا مناص من قدر من التحيز للرأي لا يَسلم منه أحد، ومن زعم أن الخطبة الموحدة خالية من التحيز فهو واهم، وههنا يكمن دور الأطر المرجعية الناظمة، كالتوجهات العامة المتعلقة بثوابت البلد، ودليل الامام والخطيب والواعظ.. فالخطيب اللبيب يدرك بفطنته ما له وما عليه دون إلزامه بتفاصيل الخطب وجزئياتها.

إن للخُطبة في الإسلام وظيفة رسالية هي الغاية التي من أجلها شرعت، وتبوأت مكانتها المعلومة؛ وجماعها تبليغ مقتضيات شريعة الإسلام، والمقرر من أمهات فضائله، وأخلاقه، والمعلوم بالضرورة من أحكامه، والتذكير لعموم الناس من رواد بيوت الله، وعمار مساجده.

والخشية من إخراجها عن وظيفتها ومقصدها الاساس بقرارات غير محسوبة العواقب والمآلات تتعلق بذات المسؤول وميولاته ومنزعه وقناعاته الخاصة، فتتم بلورة الشأن الديني برمته، ومنه صياغة الخطبة وفق اجتهادات، وتقديرات، واختيارات خاصة لطائفة من العلماء المنتدبين من قِبل المؤسسة المشرفة على الشأن الديني ببلادنا وهي وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية.

هذه الاختيارات محكومة بالضرورة بضوابط هي عند المؤسسة الوصية على الإعداد؛ الإطار الذي ينبغي أن تنحصر ضمنه الخطبة، وينتظم سيرورتَها من الافتتاح الى الختم. ولما كان للجهة الوصية اختياراتها وتقديراتها ومنظورها لواقع المجتمع، وأحوال الناس، وقضايا الشأن العام الوطني، وقضايا الأمة؛ فإن معالجتها لهذه الأقضية وتناولها لمداخل إصلاح اختلالاتها، محكوم ضرورة برؤية سياسية خاصة، شأنها- من حيث المبدأ- شأن ما للأفراد والهيئات والتنظيمات والطوائف! لأن هذه المعالجات المقترحة لأحوال الواقع في تصور واضعي الخطب، المقترِحين لموضوعاتها ومضامينها، محكومة بهاجس واختيار سياسي محدد معلوم؛ لا يخرجه عن هذا التوصيف كونه صادرا عن وزارة وتوابعها! قوامه انتقاء موضوعات وقضايا محددة، وتجنب أخرى قد يراها بعض الخطباء ذات أولوية، ومن شأنها أن تنبه إلى اختلالات تعتمل في المجتمع، ومفاسد ينبغي التنبيه على خطورتها لدرئها، أو محاسن ينبغي تثمينها ومباركتها…

وبالمناسبة فمن حق الوزارة أن تختار وتقرر، بناء على تقديراتها؛ لأنها في نهاية المطاف لابد أن تقرر لتدبر وتسير؛ لكن ليس من حقها الإلزام فيما يسعها فيه ترك الاختيار! وإذا ألزمت فقد ألزمت بتقدير بخلفية سياسية شاءت أم أبت، من حيث رامت الحياد وادَّعته؛ وبذلك تكون وقعت في محذور خافت على المنبر أن يتلبس به! فكما من حقها أن تخاف على تلبس المنبر بهذا التوظيف المبتذل، فمن حق المنبر ومن يعتليه -بذات القدر- أن يخاف التلبيس ويحذره، من قِبل من يُلزمه؛ لئلا يقع في محذور التوظيف للمنبر ومقامه، المخل بوظيفته التبليغية الحقة المجردة عن أي اصطفاف! فلا يدّعينّ مدع أن اختيارات ثلة محدودة من العلماء لها منظورها، وتقديراتها وإكراهاتها بعيدة عن التحيز والتسييس!

وعلى هذه الأسس يكون التبليغ المراد إشاعته في الناس محكوما بإحدى خلفيتين اثنين؛ إما بخلفية رسالية مجردة يجتهد الخطيب بحسب علمه وخبرته وتمرسه وكفاءته في انتقاء موضوعاته لتحقيق مقصود البلاغ، بمحكمات الشريعة، ومقرراتها المرعية، لتحقيق الغايات الإصلاحية للخطبة، وأغراضها المصلحية المستمدة من أصول التشريع، وقواعده ومقاصده، مع مراعاة لواقع الناس، وأقضية العصر، وأحوال الأمة.
وإما أن يكون التبليغ انتقائيا مُبعَّضا، محكوما بهواجس الخطوط الحمر التي لم يرسمها الخطيب بوعيه وتقديراته وخبرته، وموازناته، وترتيبه لأولويات دعوته وبلاغه، وإنما رُسمت لجميع الخطباء على امتداد ربوع الوطن، وفق تقديرات ثلة من العلماء المصطفينَ بمعايير محددة، وبمعالم، وإطارات ناظمة للاشتغال.
الخطبة الموحدة بين قرار الاختيار وإيحاءات الإلزام!

ليس من الإنصاف، ولا من المروءة والعدل إنكار ما تتضمنه كثير من خطب الوزارة من الفوائد، موضوعاتٍ ومضامينَ، غير أن هذا ليس مطردا في جميعها، وكلامي منصب على إرادة التوجه صوب التوحيد والإلزام به، لا على المحتوى الذي قد يقوى وقد يضعف، قد يصيب في اختياره، وقد يكون خارج سياق البيان في وقت الحاجة!

فعندما تكون اجتهادات وتقديرات نخبة من العلماء، مؤطرة بسياج عمل مؤسسي محددة اختياراتُه، وتكون ملزِمة للجميع، ولا مجال فيها للاختيار، والتصرف؛ سنكون ازاء نمط واحد من الخطب، طابعه الرتابة والسآمة، وزاوية الرؤية الواحدة والوحيدة التي لا ثاني لها، وهذا في تقديري سيجْهز على وظيفة البلاغ المبين، وسيأتي على قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام بالإبطال، أو على الأقل بالتقزيم المخل بقصد البيان والإفهام القائم على التفاعل المثمر مع واقع الناس، وأقضية العصر، وقضايا الأمة؛ استمدادا من موارد النصوص، ومآخذ الأحكام، والقيم.

ولقد كان قرار اقتراح الخطبة الموحدة اسبوعيا، واعتبار اعتمادها اختياريا، قرارا حكيما موفقا، إذا كانت غايته شريفة، ومقاصده نبيلة قائمة على تقدير واقع عدد لا يستهان به من الخطباء ممن يعجزون عن الإعداد الذاتي، فيمكنهم اعتماد الموجود الجاهز. ومن علَتْ همته وقدر على الاجتهاد والاختيار، وأعد خطبته موضوعا ومضمونا اعتمادا على قدراته وكفاءته؛ فله ذلك، بل يُفترض التنويه بمن يجتهد ويطور أداءه، اختيارا ومضامين.

اتهام الخطباء ونعتهم بصفاتٍ مذمومة تصرف غير مسؤول.
إذا كان تصريح المجلس العلمي الأعلى قد صدر بالاختيار وليس بالإلزام، فما الضير في الاختيار؟ وهل يعاب على من يجتهد لإعداد خطبته، بما يوافق بيئته وواقعه واهتماماته، وقضايا أمته، ورحابة شريعة ربه، استمدادا من أصولها ومحكماتها؟!

كيف يوصف صنيع هذا الصنف من الخطباء بالمرض، والإجرام ؟! وكيف لمريض أو مجرم أن يعتلي المنبر مبلغا رسالة ربه إلى الناس، وقد بذل جهدا، واختار موضوعا، وانتقى له مضامين، وكابد البلاغ! ان هذا لشيء عجاب، وأعجب منه أن يصدر من وزير!

المساجد بيوت الله يلزم القيمين والمشرفين عليها الحياد الصادق.
والمسؤولية عليها تدبيرا ومأسسة وإشرافا شيء، والوصاية عليها وعلى القيمين عليها شيء آخر، ولذلك فإن من المنكرات والمهلكات، اتخاذ بيوت الله التي يرتادها الناس بمختلف اختياراتهم وقناعاتهم وتمذهبهم؛ حلبة لفرض القناعات الخاصة، والتقديرات والاختيارات الفردية أو الفئوية على الناس من قِبل القيم الديني، خطيبا كان أو واعظا، وتوجيه الخطاب الشرعي وجهة طائفية أو تنظيمية أو سياسية تستميل الناس من موقع المسؤولية-صغرت أم كبرت- على هذا “المرفق العام” فيصير مجالا لتمرير الاختيارات الخاصة بهذا الاتجاه أو ذاك، بواسطة قيّم يفترض فيه التجرد، والتحيز فقط لمقتضيات رسالة الاسلام، انطلاقا من أصوله المعتبرة وقواعده المرعية، ومقاصده الشرعية.
وعلى هذا الأساس ينبغي النأي ببيوت الله عن الاصطفافات السياسية والتنظيمية من أي جهة كانت، لأن بوصلة القَيِّم الديني المحدِّدة لمساره هي الوحي ومقتضياته، وهداياته، وأحكامه، ومقرراته، وأمهات فضائله ومكارمه. فمنه الاستمداد، وبه البلاغ، وله الدعوة ابتداء وانتهاء.

في الختام
إذا لم يفقه القيمون على الشأن الديني هذه الأبعاد الحضارية، والمقاصد السامية لوظائف المسجد، وصار الأخير وُصلة للتوظيف المخل بمقاصد عمارته التجميعية، التوحيدية للناس على وزان هدي الوحي الرباني، فيصير كل مسؤول على الشأن الديني دقّتْ مسؤوليته أو جلّت يعتبر بيت الله مجالا خالصا له لتصريف اختياراته الخاصة واستمالة الناس اليها، وربما إلزامهم بها! فإن عواقب ذلك ستكون وخيمة على منبر له من الحرمة والمكانة، ويجب له من الفطنة والمسؤولية، ما يجب. إنه منبر البلاغ والتبليغ لمقتضيات الوحي والرسالة بشمولها وعمومها لا بالانتقاء منها وتبعيضها!

ولو كان الفقه رأيا واحدا لضاقت النفوس ببعض الاختيارات، ولكن من رحمة الله الواسعة أن جعل مبنى الأحكام على النصوص المعصومة المجردة، وجعل فهمها متسعا للتعدد والتنوع بما يناسب الزمان والمكان والحال، وبما يحفظ للعباد مصالحهم الدنيوية والأخروية… ولذلك كان تنميط الناس، وحملهم على اختيار واحد مناف لسنن الله في الخلق وفي التشريع! ولعله بهذا الأفق ينبغي أن يُنظر الى ما يمكن ان يترتب على الالزام بالخطبة الموحدة من عواقب قد لا تكون محمودة الغِبّ. وعلى المُلزم أن يحذر منع مساجد الله، والسعي في خرابها، من حيث حسب أنه يحسن صنعا، وأن يخاف مغبة سُنة قد لا تكون حسنة فيُعمل بها بعده يفضي إلى ربه ويبقى عليه وزرها ووزر من عمل بها. قال تعالى: “ماكان على النبيء من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون احدا الا الله وكفى بالله حسيبا” (سورة الاحزاب:38-39)

والله من وراء القصد

 

أخبار / مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى