الوجه الجديد للسابع من أكتوبر: قراءة ابستمولوجية في الوعي الغربي – كوثر الرايس

لم يكن السابع من أكتوبر حدثا سياسيا فحسب، بل منعطفا إبستمولوجيا في الوعي الجمعي الغربي، لحظة انكسار في منظومة الإدراك التي شكّلت علاقة الغرب بالقضية الفلسطينية لعقود. فبينما كانت الرواية الصهيونية تتغذّى من الخطاب الإعلامي الغربي، وتعيد إنتاج ذاتها بوصفها المعيار الأخلاقي الوحيد الممكن، جاء ذلك اليوم ليقوّض هذا النسق من الداخل، وليحوّل “الحدث” إلى علامة، والواقع إلى نصّ قابل لإعادة القراءة.
لقد شكّل هذا اليوم، بما انطوى عليه من صدمة معرفية، خلخلة في البنية السيميائية للخطاب الغربي: إذ انتقل الوعي من مرحلة الاستهلاك الأعمى للرواية الجاهزة إلى مرحلة التساؤل حول مصدرها وغاياتها.
لم تعد الصور تُقرأ بمعناها المعلَن، بل بما تخفيه من تضليل؛ ولم يعد العنف يُختزل في الفعل المقاوم، بل أضحى يُقرأ في تراكمات الإخضاع التاريخي الذي أنتجه. بمعنى آخر، لم تتغيّر الوقائع، بل تغيّرت زاوية الرؤية، وتحوّل الإنسان الغربي من مُتلقّ سلبيّ إلى قارئ متورّط في مساءلة الحقيقة.
إنّ ما حدث بعد السابع من أكتوبر يمكن قراءته بوصفه تحولًا في بنية الخطاب لا في مضمون الحدث. فحين اهتزّت صورة “الضحية المطلقة”، ظهرت التناقضات التي طالما جرى كبتها داخل الوعي الغربي ذاته: تناقض بين القيم المعلنة والخيارات السياسية، بين الدفاع عن الحرية ومساندة القمع، بين أخلاقية الذاكرة الغربية وعمى البصيرة أمام مأساة الآخر.
في تلك اللحظة، لم يكن الغرب أمام “حرب في الشرق الأوسط”، بل أمام مرايا ذاته الأخلاقية، أمام اختباره الأكثر إرباكًا: هل يمكن للحداثة أن تبقى حداثة وهي تتواطأ مع نفي الإنسان؟
لقد أحدث السابع من أكتوبر انقلابا في بنية الخطاب الأخلاقي، لأنه نقل النقاش من مستوى “الموقف من الحدث” إلى مستوى “الحدث كأداة لكشف الموقف”. فما عاد الفلسطيني موضوعا للرثاء، بل أصبح فاعلًا في تفكيك المنظومة الرمزية التي صاغت صورته. ومن هنا يمكن القول إنّ المقاومة لم تكن مجرد فعل عسكري، بل كانت فعلًا دلاليًا أعاد توزيع المعاني، وكشف هشاشة الأسس التي قام عليها “الوعي الغربي بالعدالة”.
هذا الوعي الجديد لم يتشكّل دفعة واحدة، بل بدأ يتسرّب ببطءٍ في ثنايا الخطاب الثقافي والأكاديمي والإعلامي الغربي، عبر موجات من الشكّ النقدي في السردية الرسمية. لقد بدأ الإنسان الغربي يكتشف أن الحرية حين تُحتكر تفقد معناها، وأن الضحية حين تُنزع من سياقها التاريخي تُختزل إلى أداة تبرير. وهكذا تحوّل السابع من أكتوبر إلى لحظة انكشاف معرفي: انكشاف الغرب على عجزه عن أن يكون بريئًا من تاريخه، وانكشاف الحقيقة على قدرتها على إعادة إنتاج ذاتها رغم الحجب.
إنّ “انقلاب الكفّة” ليس توصيفًا لميزان القوى، بل انعكاس لتحوّل في موازين الإدراك. فما انقلب هو المعنى لا السلاح، والوعي لا الميدان. لقد انتقل الغرب من موقع المُفسِّر إلى موقع المُساءَل، ومن موقع المراقب إلى موقع المتورّط في بنية الهيمنة التي طالما برّرها باسم “التحضّر”. وهنا تكمن المفارقة: أنّ الحدث الذي أرادوه “استثناءً أمنيًا” تحوّل إلى محرّكٍ فلسفيّ يعيد تعريف الإنسان، والعدالة، والمقاومة، والمعنى ذاته.
إنّ السابع من أكتوبر لم يغيّر مسار التاريخ فحسب، بل غيّر طريقة قراءته. من خلاله، انكشفت هشاشة الحدود بين الحقيقة والدعاية، بين الضمير والسياسة، بين أن تكون إنسانًا وأن تكون محايدًا أمام الجريمة.
ومن هنا، بدأ الوعي الغربي رحلته نحو منطقةٍ أكثر التباسًا، حيث لا يعود الصمت برهان حياد، بل دليل تواطؤٍ ضدّ الحقيقة.