مؤرخة إسبانية تقود مشروعا ضخما لفهم دور القرآن في تشكيل الثقافة الأوربية

يعتبر مشروع “القرآن في أوربا (القرآن الأوربي)” الذي تقوده المؤرّخة الإسبانية ميرسيدس غارسيا أرينال، من أكثر الدعوات تنافسية على المستوى الأوروبي لمكافحة الإسلاموفوبيا في أوربا.
المشروع تم إطلاقه في عام 2018 ويتواصل حتى نهاية العام الجاري في إطار منحة علمية بتمويل يقارب عشرة ملايين يورو من المجلس الأوروبي للبحوث (ERC)، يهدف إلى فهم الدور الذي مارسه القرآن في تشكيل الثقافة الأوروبية، سواء في مجال الدين أو المعرفة أو السياسة.
كما يسعى هذا المشروع إلى تحليل موقع القرآن في الثقافة الأوروبية، خصوصا في الأوساط الفكرية والأكاديمية، وذلك خلال الفترة الممتدة من القرن الثاني عشر إلى القرن الثامن عشر.
وتوضح المؤرخة والباحثة الإسبانية لـ”العربي الجديد”، أن هذا المشروع ينظر إلى الشبكة الغنيّة والكثيفة لتداول المواد والنصوص والمفاهيم والمترجمين والعلماء وأفكارهم، بالإضافة إلى مشاركة المسلمين أنفسهم في أعمال الترجمة، وإنتاجهم للقرآن من أجلهم ومن أجل المجتمعات الإسلامية الأوروبية.
ولا يلقي المشروع الضوء على تأثير الإسلام في تشكيل ما نُسميه اليوم بالثقافة الأوروبية فحسب، بل يُظهر أيضا كيف أن التفاعل بين المسلمين الأوروبيين وغير المسلمين الأوروبيين أنتج تقاليد متميّزة ومتشعبة داخل المجتمعات الإسلامية نفسها.
ويركز المشروع على ستة قرون من تاريخ أوروبا، وهي فترة شهدت ترجمته إلى اللاتينية لأول مرة، حين لجأ الرهبان الفرنسيسكان والدومينيكان إلى ذلك بغرض نقد الإسلام أو حتى تحويل المسلمين عن دينهم. لكن شيئاً فشيئاً، تطورت علاقة أوروبا مع النص المقدس؛ ففي فترة الإصلاح الديني، لجأ البروتستانت إلى القرآن في صراعاتهم ضد الكنيسة الكاثوليكية، باحثين عن مرايا تعكس اختلافاتهم. لاحقا، وجد فيه المفكرون اللادينيون مادة لمقارنة الأديان، وحتى مصدراً لتحدي الأفكار الدوغمائية.
وما يميّز هذا المشروع ليس العمق النظري، بل الجانب العملي الهائل، حيث تقوم فرق بحث من أربع دول أوروبية (إسبانيا، إيطاليا، فرنسا، بريطانيا)، بجمع وتصنيف آلاف النسخ المخطوطة والمترجمة من القرآن، وربطها جغرافيا وزمنيا. ستُنشر النتائج في قاعدة بيانات مفتوحة تتيح للباحثين والمهتمين فهم كيف تنقّل هذا النص بين العقول الأوروبية، وكيف تغيّرت طريقة فهمه بمرور الزمن. وسيتم عرض جزء من هذه الوثائق والمخطوطات في معارض كبرى، من بينها المتحف البريطاني في لندن والمكتبة الفاتيكانية في روما.
ولا تهدف الدراسة إلى “تجميل الإسلام” أو “تمجيد الماضي”، بل إلى محاربة “الأساسيات الزائفة” التي تقيم جدراناً بين المكونات الثقافية للشعوب. ومن جهة أخرى، توجد رؤية رومانسية تبالغ في تمجيد “التعايش بين الثقافات الثلاث” في الأندلس، دون الاعتراف بالصراعات والمآسي التي شابته.
ووصفت أرينال الحملة التي شنّها اليمين ضد المشروع بـ”العبثية والمجردة من الأساس”، إضافة إلى ما تمثّله من خطر حقيقي على حرية البحث الأكاديمي في أوروبا. أن يُطلب من الباحثين أن ينفوا انتماءهم لتنظيمات أو أيديولوجيات لا صلة لهم بها، لمجرد اشتغالهم على نص قرآني، هو دليل على دخول الخطاب المعرفي في دائرة الاستقطاب السياسي والديني.
وترى الباحثة في هذا الجدل ازدواجية في المعايير، إذ لم يُثر أي مشروع بحثي مماثل حول الكتاب المقدس أو الفكر اليوناني القديم ضجة مماثلة، مما يعكس بحسب الباحثين نزعة تمييزية تجاه كل ما يتعلق بالثقافة الإسلامية، حتى لو كان في إطار نقدي وتحليلي تاريخي.
المفارقة المؤلمة، أن بعض المؤسسات الثقافية العريقة، مثل المكتبة البريطانية والبيت العربي – والتي نالت جوائز وتكريمات عربية – وافقت بداية على استضافة فعاليات مرتبطة بالمشروع، ثم عادت وتراجعت خوفا من تعرضها لهجمات متطرفة.
لا تنكر الباحثة الإسبانية أن المشروع أثار حفيظة المتشددين، سواء في العالم الإسلامي، أو في أوروبا، خصوصا في اليمين المتطرف. وتقول لـ”العربي الجديد”: “البعض رأى المشروع من منظور ما بعد الاستعمار، كمحاولة للاستيلاء. والبعض اتهمنا بأننا ندعم التيارات الإسلامية المتشددة. كل ما نحاول أن نقوم به هو المساعدة على الفهم، واستيعاب المشاكل، ومحاربة التحيز. نحن نبذل كل ما في وسعنا لنشر نتائجنا ليس فقط في الدوائر الأكاديمية ولكن أيضاً من خلال المعارض. لكننا في وضع سياسي عالمي معقد للغاية”.