قربال يكتب: شهر رمضان والخصوصية المغربية

شكل شهر رمضان خصوصية تاريخية مهمة، حيث اعتبر المسجد القبلة الأولى التي تستوعب أغلبية الناس. كما تبنى المغرب رسميا في إسماع صحيح البخاري في كل مكان. ما زالت بعض المدن تبدأ إسماع البخاري منذ رجب لكي يختم في أواخر شهر رمضان.

لقد اتخذ شهر رمضان منذ القدم بعدا دينيا واجتماعيا يتغير معه نمط الحياة كليا. بعد العصر حتى المغرب تعرف المناطق المغربية حركية خاصة على جميع المستويات. فهو شهر عبادة وتضحية وتآزر وتغافر وتلاقي وتبادل الزيارات. تتحدث الحفريات المغربية أن في هذا الشهر تم ترسيم البيعة لسلاطين المغرب والتي انطلقت مع المولى إدريس الأول.

كما بدأت الحفريات الأولية للقرويين في شهر رمضان تيمنا وتبركا، وختم الخليفة المنصور القرآن في جامع قرطبة بعد رحلة جهادية مثمرة في شهر رمضان وتم الاتفاق على احترام سلم الأندلس والأندلسيين في عصر المرينيين في شهر رمضان. كما شيدت المدرسة المرينية بفاس في شهر رمضان المبارك.

لقد تحرك الجيش المغربي من أجل تحرير الجديدة تحت قيادة السلطان العلوي محمد الثالث في شهر رمضان. لقد تمت ترجمة كتاب “الجمع المقرب النافع المعرب” من الفرنسية إلى العربية في شهر رمضان تحت إشراف السلطان العلوي محمد الرابع وهو لا يزال وليا للعهد في شهر رمضان. كما صدرت أول صحيفة وهي جريدة”المغرب” في شهر رمضان سنة 1889 بطنجة.

للإشارة في شهر رمضان 1908 تم تحرير أول مشروع دستور مغربي. لقد توسعت دعوة الحق في عددها 141 عن ملامح الحياة المغربية في رمضان. كما دعا أمير المومنين الملك محمد السادس لفتح مساجد إضافية في شهر رمضان 1447-2025، وقام حفظه الله بمجموعة من المنجزات خدمة للدين نحو: تأهيل المساجد، إحداث مؤسسة محمد السادس لنشر المصحف الشريف، وإطلاق إذاعة وقناة محمد السادس للقرآن الكريم، وتخصيص جوائز لحملة القرآن الكريم وأهل الحديث، وإحداث منصة محمد السادس للحديث الشريف، وقد توسعت الأستاذة خديجة بوسبع في هذا الموضوع في بحثها: جهود أمير المومنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله في خدمة مصادر الوحي.

من خلال هذه التوطئة نستنبط أن للمغاربة طقوسا خاصة في التعامل مع شهر رمضان المبارك. سنحاول جرد بعض مظاهرها من خلال:

البعد الحضاري: إن شهر رمضان يفرض سلوكا حضاريا خاصا. يختزن عند المغاربة خصوصية تعبدية وعادات حميدة وتقاليد مباركة. فهو استعداد تعبدي واقتصادي واجتماعي وسلوكي يتجلى هذا في الدينامية التي يعرفها لدرجة أن المغاربة يودعونه باشتياق لاستمراره بعدما استأنسوا بعادات خلال هذا الشهر الكريم. فالأسواق لها طابع خاص، والأطباق حدث فلا حرج، ولا يمكن أن تجد مائدة الإفطار خالية من “الحريرة والشباكية والتمر والفطائر وسلو والمسمن والبغرير وغيرها”. إضافة إلى هذا شرب الشاي بعد صلاة التراويح مع تبادل أطراف الحديث. لقد توافقوا على ذلك مع تعديلات بسيطة احتراما لخصوصيات إقليمية ويبقى الجوهر واحدا.

إن هذا التواتر على جميع المستويات يختزن الوحدة النفسية للمغاربة التي تنعكس على تشبتهم بالوحدة الوطنية والسيادة المغربية وبالملكية رمز السيادة المغربية ووحدته الوطنية. هذا غيض من فيض من المقاصد الحضارية والروحية من هذا الشهر المبارك. قد يتدخل المختصون من أجل القيام بالتوعية خلال هذا الشهر من أجل عقلنة التعامل معه على جميع المستويات لأنه لا إفراط ولا تفريط. مع الإشارة أن لرمضان أحكاما وأسرارا لا يعلمها إلا الله مهما بلغ الإنسان من العلم.

بناء على ما ذكر يبدأ المغاربة التحضير لهذا الزائر الكريم منذ الشهور التي تسبقه خاصة شهري رجب وشعبان. خاصة على مستوى تهيئ البنية التحتية على جميع المستويات المعنوية والمادية، إضافة إلى اللوجستيك المتعلق بالمساجد من أجل استيعاب المقبلين عليها في هذا الشهر.

والملاحظ أن المغاربة يشترون أواني جديدة كل حسب استطاعته ولسان حالهم يجب أن نستقبل هذا الشهر بكل عزيز علينا. أما اللباس التقليدي نساء ورجالا وأطفالا فحدث ولا حرج ولا تكتمل الجلسات العائلية إلا بالحضور بها لأنها تعبير سيميائي للحظة التي نعيشها من تم جعلت الملابس ضمن المقاصد التحسينية للشريعة الإسلامية إضافة إلى الضرورية والحاجية، وتؤسس هذه اللقاءات للألفة التي ترفع الكلفة. خاصة عندما تكون مصحوبة “بالبخور” التي تطيب القلوب والنفوس والبيوت، مع التداول في الخطاب للكلمة الطيبة التي هي كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. مما يضفي على الأجواء الاجتماعية جمالا وجلالا. ولعل هذه الأجواء تحررنا نسبيا من طغيان الجانب الرقمي وتعقلن استعمالنا له. ويعتمد المغرب على رؤية الهلال التي تجعل المغرب متميزا على مستوى ضبط مراقبة الهلال.

جاء في الأثر بأن رمضان شهر الله لذلك يرقى فيه التعبد إلى درجة محمودة للسالكين بين إياك نعبد وإياك نستعين. فالناس يقبلون على صلاة التراويح بكل شوق. كما يحبب رمضان إلى الأطفال، ويشاركون الناس في ليلة القدر بكل طقوسها على حسب الأقاليم والمناطق، ومن العادات الحكيمة هو تزويد العائلات المساجد بالكسكس لمساعدة المصلين على إتمام تراويحهم، فهم “يروحون عليهم”.

ومما يزيد هذا الشهر المبارك تألقا هي الدروس الحسنية التي يستدعى لها علماء الأمة من أجل إلقاء دروس في حضرة أمير المومنين محمد السادس حفظه الله. في إطار الدين الإسلامي السمح المبني على الوسطية والاعتدال. كما يتم توزيع جوائز تهم أهل القرآن والحديث وغيره من العلوم المتواترة في الثقافة الدينية المغربية بين يدي جلالة الملك والتي سوف تتوقف هذه السنة لظروف صحية لجلالة الملك الذي نسأل الله تعالى أن يشفيه شفاء عاجلا، شفاء لا يغادر سقما ويديم عليه الصحة والعافية وما ذلك على الله بعزيز.

وتكثر الصلاة والسلام على رسول الله عليه الصلاة والسلام، بناء على قيم دينية وتاريخية وإنسانية متجذرة في المغرب. لأن شهر رمضان سفر إلى الله. الذي يتطلب الارتقاء بالروح والتعبد وتعزيز العبودية الغاية من خلق الإنسان. إذن نحن أمام شهر الخير والإحسان والتنافس في الخيرات وقراءة القرآن. إننا أمام سيمفونية روحية تمتح مشروعيتها من اللحظة التاريخية وفيوضات الزمان والمكان.

إن هذه الأجواء الرمضانية مرتبطة بالبعد النفسي من حيث قوة الروح، وقيمة الصبر، والتقليص من الغضب النفسي، والرفع من الإرادة النفسية. كما يتميز هذا الشهر بالتضامن والتكافل، من خلال إفطار الصائمين والاجتهاد في الإحسان، ويلعب المجتمع المدني أدورا استراتيجية في هذا المجال. لقد أطلقت جامعة القاضي عياض مبادرة قفة رمضان لفائدة الطلبة الوافدين لسنة 2025، وهذا نموذج من النماذج المتعددة في المجتمع لأنه سلوك متجذر في الثقافة المغربية.

ومما استنبطه السادة العلماء الأفاضل بناء على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يلي: تفتح أبواب الجنة في رمضان، ولأول ليلة في صيام رمضان فضل كبير، تغلق فيه أبواب النار وتصفد الشياطين، ويكفر الذنوب، وثواب العمرة في رمضان مضاعف لمن يتوفر على الاستطاعة، وفيه نزل القرآن الكريم، وليلة القدر خير من ألف شهر، وتقام فيه صلاة التراويح، وقد تتاح فيه فرص للاعتكاف، وهو شهر الجود ومدارسة القرآن، كما للصيام فوائد صحية نوجزها فيما يلي: تنظيم الكوليسترول الضار، كبح الشهية، التخلص من السموم، تعزيز الصحة النفسية وتحسين المزاج، هذا ما يتطلب تناول الفطور الصحي، والسحور الصحي، والحفاظ على نسبة السوائل في الجسم، وممارسة الرياضة باعتدال، والالتزام بالعادات الصحية وتجنب العادات الضارة.

ونخلص من هذه الرحلة المتنوعة لشهر رمضان بالمغرب أن هناك عادات متأصلة، وطقوسا متفقا عليها، وارتقاء روحيا واجتهاد تعبديا. من حكمه الكبرى تقوى الله التي تشكل التحلية والتخلية. أي حصول التقوى للصائمين. فهو شهر فضيل نزل فيه القرآن. كان المسلمون قبل فرضه يصومون ثلاثة أيام كل شهر، ويوم عاشوراء احتفاء بنجاة موسى عليه السلام من فرعون.

فهو صيام الجسم والجوارح والقلب واللسان والاستشعار بالمحتاجين والرغبة في الإحسان الذي يؤهلنا لإدراك ومعرفة قيمة النعم والعطاء الرباني. ويروى عن إمامنا مالك رحمه الله أنه كان في شهر رمضان يقبل على تلاوة القرآن من المصحف. صدق من قال “المغرب في رمضان ألسنة ذاكرة ومساجد عامرة وموائد زاخرة”. فاللهم سلمنا إلى رمضان وسلم لنا رمضان وتسلمه منا متقبلا. آمين يارب العالمين.

وأخيرا وليس آخرا يستعد المغاربة بعد الصيام لعيد الفطر الذي ينطلق من الذهاب لأجل تأدية صلاة العيد وارتداء الملابس الجديدة، إضافة إلى ما لذ وطاب من الطعام، وإخراج زكاة الفطر عنوان للتطهير مما يمكن أن يؤثر على الفوز بالجائزة. كما تتعزز صلة الرحم بين العائلات وكل الأحباب. إذن فلنكن في مستوى قيمة هذا الشهر الفضيل والمبارك والكريم ولنبقى أوفياء لأجدادنا حتى نكون خير خلف لخير سلف، ونبتكر ما يمكن تعزيز هذه اللحظات كل السنة وما ذلك على الشعب المغربي بعزيز.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى