الموس يكتب: مخرجات ورش تعديل المدونة على ضوء قواعد تقييد المباح -2-

نستمر في مقالنا هذا بعرض قواعد أخرى حول تقييد المباح مما له علاقة بالأسرة وبمخرجات ورش تعديل المدونة، فنقول:

ثانيا: قواعد فتح الذرائع وسدها وبعض مسائل المدونة

من القواعد المتربطة بتقييد المباح فتحا وسدا قواعد المآل، وهي تعني أن الشريعة قد تأمر بتقييد بعض المباحات أو منعها سدا لذريعة فساد متوقعة، كما أنها قد تُرغب وتأمر بفتح ذرائع  بعض المباحات نظرا لما يرجى فيها من مصالح متوقعة، وقد نبه القرافي المالكي على أهمية الفتح أوالسد لذرائع المباح حسب الأحوال وقال: “اعلم أنّ الذريعة كما يجب سدّها يجب فتحها، وتُكره وتُندب وتُباح”[1]. وسار على هذا ابن قيم الجوزية أيضا في كتابه “إعلام الموقعين عن رب العالمين”. ونقف فيما يأتي مع بعض النماذج المرتبطة بمقترحات التعديل:

المثال الأول: رفض إعمال الخبرة الجينية قصد إعطاء النسب

من الأمثلة التي وُفق فيها المجلس العلمي حين رفضها بالنظر لمآلاتها على الأسرة والمجتمع مسألة اعتماد الخبرة الجينية لثبوت النسب. فالعلماء يعلمون دقة الخبرة الجينية في ثبوت العلاقة الجينية والصلة البيولوجية بين الإبن وأبيه من الزنا، ولم يغب عنهم وجود أقوال معتبرة لبعض أهل العلم تُبيح الأخذ بلحوق نسب ابن الزنا؛ لكنهم عولوا على قواعد سد الذرائع في منع إعمال الخبرة الجينية. فالنسب عند فقهاء الإسلام لحمة شرعية بين الرجل وأبنائه، وهو ضمن كلية حفظ النسل وهي الكلية الرابعة ضمن الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها.

إن فتح باب إعطاء النسب بإعمال الخبرة الجينية يعني القبول بوجود أسر من الزنا، وبترسيم ما يعرف بالأمهات العازبات، وسيؤدي هذا دون شك إلى وضع شبيه بما عليه الغرب من حيث أنواع المساكنة بين الرجال والنساء بعيدا عن الزواج الفطري الذي جعله الله تعالى أساس النسل حيث قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1]. كما أن قبول إعطاء النسب عن طريق الخبرة الجينية خرق لأسمى قانون في البلد أي الدستور الذي نص في المادة الثانية والثلاثين منه أن: “الأسرة القائمة على الزواج الشرعي هي الخلية الأساس للمجتمع..”

المثال الثاني: فتح ذرائع الزواج وتكثير النسل

المثال الثاني الذي ينبغي أن يكون حاضرا عند صياغة بنود المدونة الجديدة يرتبط بفتح ذرائع الزواج وتكثير النسل. فالشريعة الإسلامية تتشوف إلى حفظ المجتمع من الزنا لما يترتب عليه من هدم للأسرة وضياع للأنساب وللطفولة. ومن ثم فقد أمرت بالزواج حيث قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32].

ورأى بعض المفسرين أن هذه الآية أصل في فتح ذرائع الزواج وتيسير وسائله، وأنها حثت على تزويج كل من لا زوج له. وتُعتبر الدولة في الإسلام مسؤولة علىدعم المتزوجين من بيت المال عند وجود الوفرة. روى أبو داوود عَنْ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلًا فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أُخْبِرْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ اتَّخَذَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ أَوْ سَارِقٌ[2].

ورغبت السنة النبوية في الزواج وترجّي النسل منه؛ روى البخاري عَن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَال: قال لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّج..”[3]. وحض عليه السلام بشكل خاص على ابتغاء النسل فقال فيما رواه أبو داود عن معقل بن يسار رضي الله عنه: “تزوجوا الودود الولود. فإِني مكاثر بكم”[4]. فمن مقاصد الزواج أن يَكثر النسل، ويُحضن في إطار أسري دافئ، يوفر له الحنان والرعاية.

وقد كتب فضيلة الدكتور أحمد الريسوني في موقعه الإلكتروني حول تكثير النسل وحسن تربيته، ورأى ذلك من الجهاد الذي ينبغي للأمة أن تتنافس في القيام به والتشجيع عليه وقال: “الإنجاب يحقق مقصدا عظيما من مقاصد الشريعة وهو حفظ النسل، وحفظ النسل يحقق دوام المقصد الأعظم والأول للشريعة، وهو حفظ الدين وحفظ الجنس البشري الذي به إقامة الدين.. ولهذا فالإنجاب اليوم جهاد في سبيل الله، وفي سبيل الدين، وهذا هو المقصد الأعظم من الإنجاب ومن إقامة نظام الأسرة”[5].

ومن ثم نرى أنه ينبغي عند صياغة مقترحات تعديل المدونة أن يُلتفت إلى أهمية تيسير الزواج، والتحفيز على النسل. إن معطيات الإحصاء الأخير جد مقلقة بالنسبة لمستقبل المغرب، فمعدل الخصوبة عند نساء المغرب وصل إلى أدنى مستوى له في 2024 وهو 1.97 طفل لكل امرأة، وهو بعيد عن الحد الأدنى لتجدد الأجيال أي 2.1 لكل امرأة. كما أن معدل أول زواج في صفوف النساء هو 27 سنة بينما يصل في صفوف الشباب إلى 32 سنة وهو يستدعي القيام بحملات ترغيبية في الزواج من خلال برامج إذاعية وتلفزية ينخرط فيها العلماء والمتخصصون، وكذلك إلى إعادة النظر في برامج جمعيات الأسرة وتنظيم النسل  بحيث يتم الترغيب في المواليد وبيان أثرها الإيجابي على الفرد والمجتمع، بدل التشجيع على التقليل منه. لقد كانت مدونة الأحوال الشخصية لسنة 1959 تُعرف الزواج بأنه: “ميثاق ترابط وتماسك شرعي بين رجل وامرأة على وجه البقاء، غايته الإحصان والعفاف مع تكثير سواد الأمة بإنشاء أسرة تحت رعاية الزوج..“.

وتنادت بعض الجمعيات النسوية من خلال مذكراتها إلى إلغاء مقصد تكثير سواد الأمة من التعريف، وقدم الدكتور مصطفى بن حمزة مرافعات جيدة قصد الإبقاء عليه  في مشروع مدونة الأسرة لسنة 2004، وبين خلالها  أن الصراع اليوم بين دول العالم يقوم على الثروة البشرية التي تمتلكها، لكن للأسف لم يؤخذ برأيه في الموضوع[6]. ونرى من خلال معطيات الإحصاء لسنة 2024 أن الواجب يقتضي  إضافة هذا المقصد في التعديلات المرتقبة، والقيام بكل ما يشجع على النسل وحسن العناية بتربيته، وإلا سيجد المغاربة أنفسهم في وضع حرج من حيث تجدد الأجيال واستمرار وجود الكفاءات التي تبني الوطن لاحقا. 

لقد أباح الإسلام تنظيم النسل بكل الوسائل المشروعة؛ وروي في الصحيح أن الصحابة استعملوا وسيلة العزل على عهد النبي عليه السلام والقرآن ينزل. روى مالك عن أبي سَعِيدٍ رضي الله عنه قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى غَزْوَةِ بَنِى الْمُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْىِ الْعَرَبِ فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ وَأَحْبَبْنَا الْفِدَاءَ فَأَرَدْنَا أَنْ نَعْزِلَ ثُمَّ قُلْنَا نَعْزِلُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ “مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ وَهِىَ كَائِنَةٌ”[7].

لكن نرى أن هذه الإباحة تُقيد بقاعدة مراعاة المآل، فيكون الاستعمال الفردي لها مباحا شرعا، لكن تعميمها والدعوة إلى الأخذ بها يتعارض مع معطيات التراجع السكاني لوطننا؛ بل يَستدعي أن تُسهم القوانين والحملات الإعلامية والتوعوية في تكثير المواليد والعناية بتربيتها. ولقد أخذت بعض دول الغرب بقواعد فتح ذرائع تكثير النسل حين رتبت مكافآت تشجيعية للأمهات على المواليد، لكن للأسف لازالت الدول الإسلامية تعتبر أن من أسباب التخلف النمو الديمغرافي والكثافة السكانية، وهو ما يتناقض مع المعطيات الإحصائية.

المثال الثالث: التوثيق ومسألة ثبوت الزوجية:

وإذا كانت أركان العقد هي الإيجاب والقبول ووجود طرفي العقد، فإن توثيقه أصبح اليوم من الواجبات إعمالا لمبدأ منع الضرر وسد الذرائع، فلا عبرة بزواج الفاتحة أو غيره ما لم يوثق. ولقد كانت مدونة الأسرة صريحة في اعتبار العقد الوثيقة الرسمية لثبوت الزوجية حين قالت: “تعتبر وثيقة عقد الزواج الوسيلة المقبولة لإثبات الزواج. إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته، تعتمد المحكمة في سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الإثبات وكذا الخبرة”. وحصل تمديد لفترة سماع دعوى الزوجية إلى سنة 2019 ثم انتهى الاستثناء. ولم يتغير الوضع الاجتماعي، وبقيت حالات جديدة تُعرض على المحاكم قصد طلب ثبوت الزوجية، واجتهد بعض القضاة فأعملوا المادة 400 من المدونة ونظروا في القضية، ووافقتهم محكمة النقض على ذلك.

لقد نادت بعض الجمعيات والمنظمات بالإبقاء على إلغاء الاستثناء في المادة 16 حول قبول دعوى ثبوت الزوجية، وعللوا ذلك بكونه كان رافدا لزواج التعدد غير الموثق، وزواج من هم دون سن الأهلية أيضا. ونرى أن هذا التعليل لا يرقى لحرمان أسرة من حق ثبوت زوجيتها، وهو عقاب لأطفال لم تكن لهم جناية حين يُحرمون من الانتساب الشرعي لآبائهم.

ولقد قدم الدكتور بن حمزة مرافعة خلال صياغة مدونة 2004 حول ضرورة الإبقاء على الاستثناء تجنبا لهذه المآلات السيئة على الزوجين والأبناء، ومما قاله بهذا الخصوص: “إن من أساسيات احترام حقوق الإنسان أن يُمكن الإنسان في حال التقاضي من إثبات حقه بكل الوسائل والأدلة الكفيلة بإثباته، وعلى ضوء هذا، فإن من الإجحاف قصر إثبات واقعة الزواج على دليل واحد هو العقد الموثق، إذا كان بالإمكان أن تثبت الزوجة أو الزوج الزواج بينات الشهود وبمعرفة الجيران والخلطاء والمعارف الذين يشهدون أن الزواج كان واقعا معيشا، علما بأن أكثر الحقوق تثبت بينات الشهود[8]. ويضاف إلى ما أشار إليه بن حمزة استمرار وجود حالات بعض المغاربة الفارين من تندوف في الصحراء دون هوية ولا وثائق، فهل يضيق بهم الوطن ويحرمهم من أغلى شيء يملكونه هو الرابطة الأسرية؟

لقد ثار نقاش طويل حول الحاجة إلى الإبقاء على مشروعية سماع دعوى الزوجية، ورأى البعض أن الظروف المعاصرة تُوفر إمكانية التوثيق في البوادي والمدن على السواء، ودعوا إلى إلغاء طلب سماع لدعوى الزوجية بالمرة. لكن ينبغي النظر إلى أن الشريعة متشوفة للستر، ولقبول الزوجية بأدنى شبهة بدل رفضها. ومن جهة أخرى فقد لوحظ أثناء صياغة مدونة 2004 تناقض خطاب الداعين إلى إلغاء ثبوت الزوجية حيث أنه: “مرة يراد تثبيت الزواج سواء بالمعاشرة أو بشهادة الشهود بحيث يتم لحوق النسب وما إلى ذلك، ومرة أخرى يلجأ إلى سد الباب أمام مجموعة من الحالات والتي يكون في واقع الأمر أطرافها متزوجين ويريدون إثبات ذلك وليس لهم أولاد”[9] .

وهذا الذي حصل قبل 2004 يتكرر اليوم وبأساليب مختلفة، أليس من التناقض المعيب أن يطالب البعض بإعمال الخبرة قصد لحوق النسب وهو فرع، ولا تُضمن به الحقوق الكاملة للطفل؛ بينما يستمر الإصرار على رفض قبول الزوجية وهي أصل، وتحمي الأطفال نفسيا وبدنيا!! إن تصريح السيد الوزير الأخير يؤكد على الإبقاء على إمكانية سماع دعوى الزوجية في مخرجات المراجعة الحالية مع ضبطه بقيود صارمة، وهو رأي حصيف يحفظ الأسرة ويضمن حقوق الأطفال، نأمل ألا يحصل الالتفاف عليه مرة أخرى عند الصياغة القانونية للمواد، وأن تستمر التوعية بوجوب التوثيق لعقود الزواج حفظا للحقوق، وسدا لذريعة التناكر.


هوامش

[1] الفروق، القرافي، ج 2، ص 38 و39.

[2] سنن أبي داوود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في رزق العمال.

[3] صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، حديث رقم 1400، ج2، ص 826.

[4] سنن أبي داود، كتاب النكاح، باب النهي عن النهي عن تزويج من لم يلد من النساء.

[5] موقع الدكتور أحمد الريسوني، سلسلة ما قل ودل: https://raissouni.com/9232

[6] مصطفى بن حمزة، فقه الأسرة مرافعات مقدمة إلى لجنة مراجعة مدونة الأحوال الشخصية، م س، ص 165 وما بعدها.

[7] مالك بن أنس، الموطأ، كتاب الطلاق، باب ما جاء في العزل.

[8] مصطفى بن حمزة، فقه الأسرة مرافعات مقدمة إلى لجنة مراجعة مدونة الأحوال الشخصية، م س، ص 216.

[9] إدريس الضحاك، الأعمال التحضرية لمدونة الأسرة، الكتاب الأول، ص 138.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى