“الكتاب” و”الحكمة”: ما الحكمة التي تجاور القرآن؟
إذا كان العالم عموماً، والعالم العربي على وجه الخصوص، يفتقد شيئاً فهو ليس الموارد وليس تقنية الجيل الرقمي العاشر (10G) بل هو “الحكمة”. إذ نحتاج بإلحاح إلى الحكمة لمواجهة تحديات الفقر والجهل، والتهميش والصراع، والتفكك والمعضلات الجماعية التي تعصف بالفرد والأسرة والاقتصاد والمجتمع حول العالم.
وردت كلمة “الحكمة” عشرين مرة في القرآن الكريم، وتجاورت مع “الكتاب” في عشر آيات قرآنية، مثل قوله تعالى: “فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ” (النساء: 54). في نصف هذه الآيات، تجاورت الحكمة مع القرآن الكريم تحديداً، وفي النصف الثاني اقترنت الحكمة بالكتب المقدسة لآل ابراهيم، بمن فيهم سيدنا عيسى عليه السلام.
ومما لاشك فيه يُنبئ هذا الاقتران بين الحكمة من ناحية وبين القرآن والكتب السماوية الأخرى من ناحية أخرى بالأهمية الاستراتيجية و”المكوّن أو المكمّل الذهبي” لرسالة الهدى.
فما معنى الحكمة في السياق القرآني؟ وكيف نَدْرسها ونُدَرّسها؟ وكيف يمكن للبشرية تحصيلها لتحقيق الصالح العام وعمارة الأرض والتنمية المستدامة والتشاركية؟ نحتاج في الواقع الى رسائل دكتوراه وكرسي جامعي مستقل في كل جامعة عربية وإسلامية رئيسية لإيضاح أبعاد هذا المفهوم وتطبيقاته العملية، إلى جانب اهتمام مراكز الدراسات والفكر حول العالم.
كلمة “الحكمة” هي مما اختلف المفسرون في بيان معناها القطعي. وبناء عليه، نحتاج الى العلم الراسخ لتأويلها وتفسيرها المُحْكم. وقد يكون من الأفضل تفسيرها بصورة تجميعية عامة، ومحاولة الجمع بين معطيات مختلف التفسيرات اللغوية والاصطلاحية والشرعية المعتبرة.
ومن قراءة الآيات التي تجمع بين الكتاب والحكمة وغيرها، يمكن الاجتهاد بالآتي:
1 – الحكمة هي صفة متصلة بالقرآن الكريم، البعض فسرها بالسنة النبوية (الشافعي وقتادة) كتطبيق عملي للقرآن، لكن هذا التفسير لا ينطبق على جميع آيات الحكمة في القرآن. وهناك من فسرها بأنها “علم القرآن” (ابن عباس) أو أنها “بعض الكتاب” (مثال: مواعظه وأحكامه).
2 – الحكمة، بمعناها النهائي، هي هبة من الله عز وجل، فهي تنزيل وعطاء من الله عز وجل (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (البقرة: 269)) وترتبط بتقوى الله (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ- البقرة 282).
3 – الحكمة على الأغلب هي ذات بُعْدٍ تطبيقي، ولذلك فسرها البعض بأنها: “معرفة الحق والعمل به” أو “الصواب في العلم والعمل” أو “فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، وفي الوقت الذي ينبغي” (ابن القيم). باختصار، لا يمكن فصل الحكمة عن السياسة العامة العقلانية.
4 – الحكمة تقتضي المعرفة القطعية وبالتالي لا ترتبط بالقوة المتفرّدة بقدر ارتباطها بالتشاور والفقه والعقلانية التواصلية Communicative Rationality. فالحكمة قد تتوفر لدى ضعيف (مثال: طائر الهدهد) مقابل الأقوى (مثال: النبي سليمان الذي أوتي ملكا عظيما، لم يؤته الله لأحد من قبله ومن بعده، بما فيها تسخير قدرات الجن). الهدهد قال لسليمان بثقة: “أحطت بما لم تُحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين” (النمل: 2). وبسبب هذه المعلومة الصادقة أسلمت ملكة سبأ وقومها.
5 – للحكمة ارتباط بالإحاطة بالواقع وبالمآلات ونتائج الأفعال والسياسات في المدى الطويل (مثال: حكمة العبد الصالح في قصة الكهف التي حاول سيدنا موسى عليه السلام تحصيلها بمرافقته) كما ترتبط بالرشد والعلم الراشد.
العلم التجريبي الصارم هو بلا شك شرط ضروري للحكمة لكنه شرط غير كاف. لأن الحكمة ترتبط بعقلانية الغاية (ما الغاية الأجدر بالتحقيق؟) كما ترتبط بعقلانية الوسيلة (كيف أحقق هدفي بفعالية؟). والعلم التجريبي والذكاء مجالهما الرئيسي هو عقلانية الأداة وليس الغاية، ولنتذكر هنا قوله تعالى: “وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى علْم” (الجاثية 23). أما الفلسفة والفلاسفة فلم يتفقوا حتى تاريخه على تعريفٍ محددٍ لـ”الحياة الطيبة” أو لـ”الطريق المستقيم”!.
6 – الحكمة تُعنى بسعادة البشرية في الدارين، وليس في الحياة الدنيا فحسب (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ- الروم:7). وبناء عليه، فإن العلم بالله عز وجل وبأسمائه وبسنته في خلقه، وبالغاية من الحياة والوجود ومعناهما النهائي، هي قمة الحكمة. ويصعب بالتالي تأسيس تصور نهائي وموضوعي للحكمة بمعزل عن تنوير الشريعة بمعناها العام.
ويتبنى هذا المقال تعريفاً عاماً للحكمة بأنها “حُسْن فهم القرآن وتنزيله”. والصيغة العامة لهذا التعريف أكدها بعض السلف، ومن الخلف فضيلة د. أحمد نوفل المتخصص في الدراسات القرآنية. وبصورة أكثر تفصيلاً، فإن الحكمة حسب رأي الكاتب تقتضي الاحاطة بعمق بتسعة علوم شرعية وتجريبية هي علوم: (1) العقيدة وأصول الدين (2) النصوص الجزئية (فقه آيات الأحكام الأخلاقية والقانونية) (3) القواعد الفقهية والأصولية (فقه القواعد الشرعية) (4) المقاصد العامة (فقه المقاصد الشرعية) (5) السنن الكونية (فقه السنن القرآنية) (6) السيرة والسنة النبوية (7) فقه الواقع والمآلات (العلوم الاجتماعية المتكاملة والدراسات المستقبلية والإستراتيجية) (8) فقه الشورى والمصالح المرسلة لتنظيم المسكوت عنه و(9) فقه التنزيل (مثال: إدارة التغيير وعلم الإقناع وعلم الممارسات Praxiology). هذا هو المكوّن المعرفيّ للحكمة، أما المكوّن غير المعرفيّ (الرحمة والهداية والبصيرة والتقوى والعدل وغيرها) فيحتاج إلى بحث مستقل.
جمال الحمصي