يوميات مؤذن خلال أزمة “كورونا” – الحبيب عكي
رغم أن الصدمة كانت قوية ومفاجئة وغير منتظرة، فإن مؤذن مسجد الحي “الحاج عبد الرحمان” قد استوعبها بسرعة وحسم أمره فيها دون تردد، فقال:”قيل لنا أغلقوا المسجد ..فسنغلق المسجد ولا جدال، وقيل لنا لا تبقوا فيه إلا على الآذان..فلن نبقي فيه إلا على الآذان..ولا جدال”.
صاعقة “كورونا” قوية لا يأمن من شرها وفظاعتها أحد كما حدث عند الدول الكبرى رغم الطاقات والإمكانيات، ولا يمكن مواجهتها كما يقول العلماء والأطباء إلا بالتزام الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي.. فلنغلق علينا منازلنا ولنتباعد بيننا في أسواقنا، لأنه كما يقول الفقهاء:”حفظ الأبدان مقدم على حفظ الأديان،ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح”، وها أنتم ترون قد توقف القطار وأغلق المطار وتعطلت المدرسة وألغي الحج والعمرة وأقفل السوق والملعب والمقهى والملهى ..، ولما لا يغلق بيت الله، أم تريدون أن يكون بؤرة الوباء وما وضع إلا لحماية الخلق من البلاء؟
استساغها الحاج عبد الرحمان، وبكل بساطة وحماسة، كان يضبط الوقت ويأتي المسجد يرفع فيه النداء كل صلاة، ويقول آخر كل أذان :”صلوا في رحالكم..صلوا في رحالكم”، ولكن لم يكد يمضي حتى الأسبوع الأول من الجائحة حتى بدأ بعض الضعف ينتاب المؤذن المتجالد وكأن بعض الوسواس قد خالطه فبدأ ينخر من عزمه، فما أن يقول في أذانه ..” صلوا في رحالكم..صلوا في رحالكم”، حتى يجهش بالبكاء وتفيض عيناه، وكيف لا تفيض وهو الذي لا يطيق أن يرى غياب المصلين عن مسجده العامر يوما واحدا بل صلاة واحدة، فكيف بغيابهم عنه لأسبوع كامل، وكأنه لا يؤذن رغم استبداله المكبر القديم بمكبر جديد ورفع صوته فيه على أقصاه، وكأنهم لا يسمعون وهو الذي قد كاد يؤذن للصلاة الوحدة عدة مرات، وكأن عاصفة رعدية قد خيمت على الأحوال الجوية فصلا من الزمن، وكأن في الطريق “معابر رفح” وسياجات مكهربة وشرطة تفتيش العدو، وهذا أقصى وأقسى ما يحدث في طريق المسجد الأقصى ورغمها يتحدى المصلون كل الحواجز أفواجا أفواجا، و إلى ساحات الأقصى يحضرون كل صلاة.
إنه المسجد بيت الله يا سادة، خطوات السعي إليه بالحسنات، المكوث فيه ذكر وعبادة، انتظار الصلاة بعد الصلاة اعتكاف، إنه المسجد بيت الله، قد يعدل الناس عن ارتياد أي مكان، وقد يختلفون عن الحلة والحرمة في ذلك، وقد يسمح لبعضهم قانونيا بارتياده دون البعض الآخر، إلا المسجد فإليه يأوي الفقير والغني..الشيوخ والشباب..الرجال والنساء، فيه يسجدون بين يدي ربهم، وله يبثون شكاويهم وأشواقهم، هذا خلف سارية يتهجد وهذا أمامها على سجاد، فأين منا ذاك التسابق على الصف الأول، وأين منا صلاة الجماعة خير من صلاة الفرد ب 27 درجة، أين منا يا جار المسجد لا صلاة لك إلا في المسجد، أين منا دروس الوعظ وحلق الذكر وخطب الفكر، وأين منا قصع الطعام اللذيذ للمحسنين يوم الجمعة والجماعة، أين منا هواية التجوال بين المساجد والتغني بيا ليته كان بعيدا..يا ليته كان كاملا..يا ليته كان جديدا؟؟ على باب المئذنة الشامخة أطلق الشيخ بصره على مداه و لم يرى غير الأفق على مداه..ففاضت مرة أخرى عيناه.
لم يوقف دموع سيدي الحاج عبد الرحمان المؤذن، غير ما جال بخاطره أن من كان يداوم على عبادة، جزاه الله بخيرها حتى وإن حالت بينه وبينها ظروف قاهرة كهذه، فقد رأى الطائفون حجاجا يطوفون معهم بالبيت الحرام، وما ذهبوا إلى الحج وما شدوا إليه الرحال إلا بنواياهم وأشواقهم، ومن يدري ربما جاءت أرواح الناس إلى المسجد وصلوا، وجاء الناس ذاتهم وقاموا، وتعارفوا وتصافحوا وتغافروا كعادتهم طوال ليالي رمضان، فقط أنا من أغشي علي بهموم الجائحة وأخبارها القاتمة ولم أراهم. ألسنا في رمضان شهر الصيام، فهل هناك صيام بدون إفطار ولا قيام؟ وهو يخطو بمفرده خطوات ثقيلة داخل المسجد ويقول مشيرا إلى ما يشير إليه من الأشباح والألواح والأرواح،..ما شاء الله المسجد عامر كالعادة، هنا سارية “الحاج عبد الله”، وهنا كرسي الشيخ “عبد الكبير”، لك الله يا منبر شيخنا الجليل “عبد الكريم”..ماذا دهاك يا حاج – وهو يخاطب نفسه – كأنك لا تشاهد نشرة الأخبار، إن هذا الغلق قد طال كل مساجد وكنائس العالم، وإنها أعظم خسارة مُرة حنظلة ولكن لابد منها،و ها هو كل العالم يرفع أكف الضراعة إلى الباري تعالى وكأنه يقول:”رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ” غافر / 11.
وطوال هذا الأسبوع، كان الحاج عبد الرحمان يحدث نفسه كمختل، ما أفظع سذاجتك يا مؤذن، كم كنت تشكو من صعوبة تسيير المسجد، كثرة الحاجيات وقلة الإمكانيات، ضرورة الانضباط في الوقت، اختلاف أمزجة الناس بين من يريد العمق في الخطبة ومن يريد التبسيط، ومن يريد التسريع في الصلاة ومن يريد التبطيء، فعلى من تغلق الباب ولمن تتركه مفتوحا؟ ويزيد من تلك الصعوبة صعوبة الأوقاف ورقابتها، وهي في إصلاحها للشأن الديني تريد تطهير المسجد والمنبر والوعظ والتحفيظ ممن هب ودب، حتى طهرته من العديد من الطاقات والكفاءات، واليوم وكأن الجائحة ترفض هذه السياسة وتقلب السحر على الساحر، فأنبتت طوفانا من الدروس والمواعظ و”اللايفات” و”الزومات”.. وكل الشيوخ والشباب، يجتاحون العالم الافتراضي في مسجد عالمي افتراضي. فأين وقفك وتوقيفك وتوفيقك يا أوقاف؟؟ نعم،كان تسيير المسجد صعبا، وضغط العمل أصعب، واليوم تأكدت أنه “الخايب غير بلاش”، تأكدت من نعمة المسجد، ونعمة العمل، ونعمة الصحة، ونعمة الأمن والأمان، فيا رب أدم علينا نعمك بدوامها ولا تفاجئنا بزوالها.
لكن، من كان يعبد المسجد فإن المسجد قد أغلق، ومن كان يعبد الله فبابه مفتوح لا يغلق، وليس به وزير فيؤتى ولا حاجب فيرشى، طوال حياتي وأنا مؤذن واليوم أنا مؤذن وإمام بأهلي في بيتي، أتلوا عليهم من الذكر الحكيم آيات وآيات:”رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا”الفرقان/74.”رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”البقرة / 128. “ربنا آتينا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار” البقرة / 201، أكيد أنني قد ترقيت إذن في خدمتي من مجرد مؤذن بسيط إلى إمام “كامل ومكمول”، وحتى وأنا مؤذن فأكيد أنني من جنود الصف الأمامي لمواجهة الجائحة، ولو أنهم – سامحهم الله – يتجاهلونني في الإعلام، أنا أؤذن كل يوم خمس مرات، لا أؤذن من بيتي عن بعد، بل أقطع من أجل ذلك مسافات ومسافات وأتعرض لأخطار وأخطار، وفي الإعلام يذكرون فقط غيري من العلماء والأطباء ورجال السلطة الشرفاء، أنا أيضا مناضل شريف وأنادي بضرورة الأمن الروحي للمواطن، أذكره بالأذان، وأطالب في كل بيت بمصحف على رواية الإمام ورش و”رياض الصالحين” و”الشفاء” للقاضي عياض، أنا لا أريد سمعة ولا شهرة فالله يعرف صاحب الدرهم، ولكن فقط شيء من الاعتراف والإنصاف.
لكن سامحك الله يا “كورونا”، فبالأمس كنا نحفظ بعض أطفال الحي كتاب الله وبعض الأخلاق من السيرة النبوية العطرة، واليوم توقفوا دون تعليم لا عن قرب ولا عن بعد، وكان الإمام – شكر الله له – يرافقنا لبعض “السلاكي” نقرأ فيها ما تيسر، ونتعشى بما لذ وطاب، ويعطف علينا أهل الفقيد بما تيسر، جود وكرم وصدقة ورفقة ومحسنين ومحسنين وما “خاصنا خير”، واليوم في ظلك أيتها الجائحة مرضى بلا صدقات وموتى بلا جنائز ولا تأبينات ولا “سلكات”، سامحك الله يا “كورونا”، ففي ظلك يتحدثون عن مساعدات للخيل والبغال وحق لهم…لكن لم يتركوننا نحن المؤذنين والأئمة، الذين ملأنا بالأمس شوارع العاصمة هرجا ومرجا نطلب العطف والمعونة؟ لم تركونا في خضم الأزمة يريق بعضنا ماء وجهه تسولا وكأننا نحن أشباه الرجال أو رجال وليس لدينا مصاريف ولا عيال؟ أهذه هي الترقية والتضامن يا “كورونا”..أم على الرجال أن يطلبوا – لا سامح الله – بطائق البغال؟.. أم على الرجال أن يطلبوا – لا سامح الله – بطائق البغال؟،..إلى الله المشتكى ..إلى الله المشتكى..وفاضت عيناه؟؟.
حفظ الله أسرنا وأطفالنا وآبائنا وأوطاننا، ورفع عنا وعن العالمين هذا الوباء والبلاء والغلاء والعناء..وأعان كل من يتصدى له أو يساعد على ذلك من أي موقع وبأي إمكان، وعجل بعودتنا إلى مساجدنا ومدارسنا ومعاملنا وأعمالنا وأحبابنا وأسفارنا..، آمين..أمين..والحمد لله رب العالمين.