وقفات تربوية مع كلام خير البرية
(الوقفة الثالثة)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ،
وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ،
وَيُنَادِى مُنَادٍ: يَا بَاغِىَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ.
وللهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» رواه الترمذي وصححه الألباني
(يَا بَاغِىَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ) على شهر رمضان
شهر تفتح فيه أبواب الجنان، وتضاعف فيه الحسنات، وتقال فيه العثرات.
شهر تجاب فيه الدعوات، وترفع فيه الدرجات، وتُغْفَر فيه السيئات.
فما زَادُ الإقبال حتى يتحقق المَنَال؟
وبما سَنُقْبِل على الشهر الكريم حتى نَسْتَجيب لمنادي ربنا الحكيم؟
1 – (يَا بَاغِىَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ) و(إقرأ)
(إقرأ) أولأمرأُنْزِل في رمضانوكُلِّفت به لِتَخْرُج بنوره من ظلمات الجاهلية (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ)البقرة 185.
(إقرأ) قراءة ربانية تربط بين الفهم والإدراك لكلام الله المسطور وللكون المنظور(باسم ربك الذي خلق).
(إقرأ) واعرف نفسك (خلق الإنسان من علق) فأنت كائن مُتَعَلِّق بطبيعتك، تتعلق (بشيء ما، بفكرة ما، بشخص ما).
(إقرأ) وتعلق بأهداف سامية ومقاصد نبيلة فقد (فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ)
- تعلق بربك لتحقق حريتك وكرامتك (باسم لربك الأكرم).
- تعلق بوحي خالقك ليبقى مصدرك صافيا نقيا فتهتدي للصراط المستقيم (الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ)
2 – (يَا بَاغِىَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ) (وصن نفسك عن الزور)
الزور لغة
الميل عن الحق، يقول ابن فارس: الزاي والواو والراء أصل واحد يدل على الميل والعدول، من ذلك الزور الكذب، لأنه مائل عن طريقة الحق.
الزور اصطلاحا
قال أبو هلال العسكري: الزور هو الكذب الذي قد سوي وحُسِّن في الظاهر ليحسب أنه صدق وهو من قولك:
زورت الشيء إذا سويته وحسنته.
فاتباع الهوى زور في حق الله، والكسل زور في حق نفسك، والكذب زور في حق نفسك والآخر …
3 – (يَا بَاغِىَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ) (بالقيام)
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺقال: (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه)
- قم للحي القيوم بالدين القيم قال تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون)) الروم(30)
- قم بآيات ربكلدورك المناط بك في الأرض، لعمارتها ولخلافة الله فيها ولإقامة صرح الإسلام.
“فبقيام الليل وترتيل القرآن وتسبيح الله سبحانه تَرسُخ قيم العبادة لله عز وجل، فيتربى الإنسان تربية إيمانية، ويتزكى تزكية روحية، تَرْفَع به وتَبْنيه وتُعِدُّه للهداية والفلاح في الدنيا والآخرة.” (سليمان الدقور)
قم ليلك وتسحر
في الصحيحين عن أَنَسِ بْنِ مَالِك رضي الله عنه أن النبي ﷺقال:(تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً).
البركة في اللغة هي الزيادة والنماء
البركة قيمةٌ معنوية لا تُرى بالعين المجردة ولا تُقاس بالكم ولا تحويها الخزائن..
فمن بركة السحورصلاة الفجر في وقتها الفاضل، بلوقيام آخر الليل للذكر والدعاء والصلاة وذلك مظنة الإجابة ووقت صلاة الله والملائكة على المتسحرين لحديث أبي سعيد رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (السُّحُورُ أَكْلَةٌ بَرَكَةٌ فَلا تَدَعُوهُ وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ) رواه أحمد وحسنه الألباني.
قم لتشهد أقدار الخيرٍ وبركاته
(ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه) الشيخان
قال تعالى: ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ(3)فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4)))
( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ . تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ . سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)
ليلة القدر ستحولك إلى إنسان جديد صَاغَتْه الشُّحنة الإيجابية من العبادة (قياماً وصياماً خلال أيام وليالي الشهر المبارك)، إلى إنسان طموح وصاحب همة عالية يجتهد ويتفاءل بالأقدار الآتية.
قم بالدعاء
عن عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن ليلة القدر فقالت:
“يا رسولَ اللَّهِ أرأيتَ إن وافقتُ ليلةَ القدرِ ما أدعو؟”، قالَ: «تقولينَ: اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي» (صحيح ابن ماجه)
ليلة نزول الملائكة والروح الأمين، ليلة الفرقان .. إن صحت فيها الصلة، وصحّ فيها الإقبال، وصحّ فيها الدعاءفذاك هو الخير كله (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ).
4 – (يَا بَاغِىَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ) (بالجود)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ “رواه الشيخان
فما العلاقة بين الجود والمدارسة؟
دَرَسَ الكِتَابَ أَوِ الدَّرْسَ :أحَاطَ بِمَا فِيهِ مِنْ عُلُومٍ أو مَعَارِفَ لِيَفْهَمَهَا وَيَتَعَرَّفَهَا
دَرَسَ الدَّارِسُ سَنَابِلَ القَمْحِ : دَاسَهَا بِمِدْراةٍ أو بِدَرَّاسَةلتبقى الحبة خالصة.
(فيا باغي الخير أقبل) وجُدْ :
- بفكرك لتفهم الآيات وتتعرف على التشكيلة القرآنية التي أرادالله أن يصنعك عليها ، قال تعالى ((وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي)) (39طه) ((وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)) (41)طه. فجد مدارسة ليسهل عليك الجود ممارسة.
- بأخلاقك فقد قال من كان خُلُقه القرآنﷺ:(إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا فَلا يَرْفُثْ، وَلا يَجْهَلْ، فَإِنْ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ) رواه البخاريومسلم
- بمالك عن أنس رضي الله عنه قال: ((مَا سُئِلَ رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم عَلَى الإِسْلامِ شَيئاً إِلا أَعْطاه، وَلَقَدَ جَاءَه رَجُلٌ فَأَعطَاه غَنَماً بَينَ جَبَلَينِ، فَرَجَعَ إِلى قَومِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمداً يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لا يَخْشَى الفَقْرَ)) رواه مسلم
قال ﷺ:“اتَّقُوا النَّارَ وَلوْ بِشقِّ تَمْرةٍ“رواه الشيخان
وقال ﷺ:“مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا” رواه الترمذي
- جد بما استطعت فأنت أول مستفيد منه قال تعالى: {وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون}[البقرة: 272]. ((فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)) (الشيخان)
5 – (يَا بَاغِىَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ) (وأخرج زكاتك)
جَاءَ عَن ابنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قَالَ:((فَرَضَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم–زَكَاةَ الفِطرِ طُهرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعمَةً لِلمَسَاكِينِ))أخرجه أبو داود
الزكاة بركة ونماء وطهارة لصيامك وقيامك وذكرك ووقاية من الرَّغامِ(رَغِمَ الرَّجُلُ: ذَلَّ).
ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
((رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ)) رواه الترمذي وصححه الألباني
6 – (يَا بَاغِىَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ) (وصم ستة من شوال)
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ” رواه مسلم
رصيد سيآت الدهر يحتاج إلى رصيد حسنات الدهر((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ))(هود: 114)
وختاما
(يَا بَاغِىَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِىَ الشَّرِّ أَقْصِرْ. وللهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ)
إنها ليست وُعُودُ بَشَربَلْ هي وُعُودُ من لا يخلف وعده.. ولا يخذل وعبده..
(أَقْبِلْ) بقلبك بعقلك وبكل ذرة في كيانك.. و(أقْصِرْ) عن الغفلة..وكل ما يخدش علاقتك مع ربك واستعن به وادْعُهُ فإنك بإذن الله مجاب الدعوة .
فقد قال جل وعلامباشرة بعد آيات الصيام في سورة البقرة: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186).
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا
نعيمة بنونة