وفاء النبي بالعهد وكرمه وعبادته – جمال نصار
تناولت في مقالة سابقة بعض الصفات الأخلاقية لسيد البشر (الرحمة، والحياء)، التي تمثل نموذجاً ربانياً في التعامل مع الآخرين؛ لتكون لنا نبراساً في حياتنا، وفي هذه المقالة نستكمل بعضاً من هذه التربية الأخلاقية التي تربى عليها الحبيب صلى الله عليه وسلم.
لم ير أعداؤه عنه خلفاً لوعد ولا خيانة لعهد رغم حرصهم الشديد على الظفر بعثرة له أو زلّة
تاسعاً: وفاؤه بالعهد صلى الله عليه وسلم:
كان النبي، عليه أفضل الصلاة والسلام، إذا وعد وفَّى، مع كل من يتعامل معه، أو يتعهده بعهد، سواء مع أصحابه أو أعدائه؛ فلم يحفظ عنه أعداؤه خلفاً لوعد، ولا خيانة لعهد، رغم حرصهم الشديد على الظفر بعثرة له أو زلّة، ولكن هيهات، عاش عمره كله سلماً وحرباً وحلاً وترحالاً، عاش حالة واحدة من الصدق والأمانة.
ومن وفائه، صلى الله عليه وسلم، أنه كان يكرم صديقات زوجته خديجة، رضي الله عنها، بعد موتها، فعن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: كان النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا أتي بالشيء يقول: “اذهبوا به إلى فلانة؛ فإنها كانت صديقة خديجة، اذهبوا به إلى بيت فلانة؛ فإنها كانت تحب خديجة”(1).
ولقد عاهد المشركين واليهود وهم أشد الناس عداوة له، فما خان ولا خلف بالعهد، ولا نقض لميثاق(2)، وحق له أن يكون أوفى الناس بوعده وأصدقهم في عهده، وهو الذي قال: “آية المنافق ثلاث؛ إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان”(3).
وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يفي بالعهود والمواثيق التي تكون بينه وبين أعداء الإسلام، فثبت عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه قال لرسولي مسيلمة الكذاب لما قالا: نقول: إنه رسول الله، “لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما”(4).
وثبت عنه أنه قال لأبي رافع، وقد أرسلته إليه قريش، فأراد المقام عنده، وأنه لا يرجع إليهم فقال: “إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إلى قومك، فإن كان في نفسك الذي فيها الآن فارجع”(5)، وثبت عنه أنَّه ردَّ إليهم أبا جندل للعهد الذي كان بينه وبينهم، أن يردَّ إليهم من جاءه منهم مسلماً(6).
بلغ مرتبة الكمال الإنساني في حبِّه للعطاء إذ كان يعطي عطاء مَن لا يحسب حساباً للفقر
عاشراً: كرمه صلى الله عليه وسلم:
لقد مثَّل النَّبيُّ، صلى الله عليه وسلم، المثل الأعلى والقدوة الحسنة في الجُود والكَرَم، فكان “أجْوَدَ النّاسِ بالخَيْرِ، وكانَ أجْوَد ما يَكونُ في رَمَضانَ حِينَ يَلْقاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ عليه السَّلامُ يَلْقاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ في رَمَضانَ، حتّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم القُرْآنَ، فَإِذا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عليه السَّلامُ، كانَ أجْوَدَ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ”(7).
وقد بلغ النبي الكريم مرتبة الكمال الإنساني في حبِّه للعطاء، إذ كان يعطي عطاء مَن لا يحسب حساباً للفقر ولا يخشاه، ثقة بعظيم فضل الله، وإيماناً بأنَّه هو الرزَّاق ذو الفضل العظيم.
عن موسى بن أنسٍ، عن أبيه، قال: “ما سُئل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على الإسلام شيئاً إلَّا أعطاه، قال: فجاءه رجلٌ فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإنَّ محمَّداً يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة”(8).
وكان يُؤْثِـر على نفسه، فيعطي العطاء ويمضي عليه الشَّهر والشَّهران لا يُوقَد في بيته نارٌ، وكان كرمه صلى الله عليه وسلم كرماً في محلِّه، ينفق المال لله وبالله، إمَّا لفقير، أو محتاج، أو في سبيل الله، أو تأليفاً على الإسلام، أو تشريعاً للأمَّة، وغير ذلك.
نال أعظم المنازل في صفوف أهل الجود فلم يكن يردّ سائلاً أو محتاجاً
ولقد نال النبي، صلى الله عليه وسلم، أعظم المنازل وأشرفها في صفوف أهل الكرم والجود؛ فلم يكن يردّ سائلاً أو محتاجاً، وكان يُعطي بسخاءٍ قلّ أن يُوجد مثله.
وكثيراً ما كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يمنح العطايا يتألّف بها قلوب المسلمين الجدد، ففي غزوة حنين أعطى كلاًّ من عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، والعباس بن مرداس، وأبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، رضي الله عنهم، عدداً كبيراً من الإبل، وعند عودته، عليه الصلاة والسلام، من تلك الغزوة تبعه بعض الأعراب يسألونه، فقال لهم: “أتخشون عليّ البخل؟ فوالله لو كان لي عدد هذه العِضاة نَعَماً –أي: أنعاماً- لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً”(9).
وهكذا كان سخاؤه، صلى الله عليه وسلم، برهاناً على شرفه، وعلو مكانته، وأصالة معدنه، وطهارة نفسه.
حادي عشر: عبادته صلى الله عليه وسلم:
من كريم أخلاقه، صلى الله عليه وسلم، أنه كان عبداً لله شكوراً؛ فقد كان يعرف حق ربه، عز وجل، عليه وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وعلى الرغم من ذلك كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويسجد فيدعو ويسبح ويدعو ويثني على الله تبارك وتعالى، ويخشع لله عز وجل حتى يُسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل؛ فعن عبدالله بن الشخير، رضي الله عنه، قال: “أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء” (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وعن عائشة، رضي الله عنها، أن نبي الله، صلى الله عليه وسلم، كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: “أفلا أكون عبداً شكورًا” (رواه البخاري).
رغم أن الله تعالى غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه
وكان مـن تمثله، صلى الله عليه وسلم، للقـرآن أنه يذكر الله تعالى كثيراً، قال عز وجل: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الأحزاب: 35).
ومن تخلقه، صلى الله عليه وسلم، بأخلاق القرآن وآدابه تنفيذاً لأمر ربه عز وجل أنه كان يحب ذكر الله ويأمر به ويحث عليه، قال: “لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس” (رواه مسلم)، وقال: “مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره، مثل الحي والميت” (رواه البخاري).
وكان أكثر الناس دعاءً، وكان من أكثر دعائه أن يقول: “اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار” (متفق عليه).
وعن عائشة، رضي الله عنها، أنه كان أكثر دعاء النبي، صلى الله عليه وسلم، قبل موته: “اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل” (رواه النسائي، وصححه الألباني).
هذه بعض الوقفات مع منهج النبي، صلى الله عليه وسلم، في تربيته المجتمع على الأخلاق الإسلامية الفاضلة، التي كانت سبباً واضحاً في نشر الإسلام، ودخوله لقلوب العباد.
فجزاه الله من نبي عن أمته خيراً، ورحم الله عبداً تأمل في هذه الشمائل الكريمة، والخصال الجميلة، فتمسك بها، واتبع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليحوز شفاعته يوم الفزع الأكبر، ويرضى الله عنه، فنسألك اللهم التوفيق لما فيه الخير بمنّك وكرمك يا أرحم الراحمين.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأدب المفرد، البخاري، 232.
(2) محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه، عائض القرني، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 1422هـ/ 2002م، ص35.
(3) صحيح البخاري، حديث رقم (33).
(4) سنن أبي داود، حديث رقم (2761).
(5) زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم، 5/ 80.
(6) المرجع السابق، 5/ 80.
(7) صحيح البخاري، حديث رقم (1902).
(8) صحيح مسلم، حديث رقم، (2312).
(9) صحيح البخاري، حديث رقم (2821).