وثيقة المطالبة بالاستقلال: الدلالة والأبعاد – نورالدين قربال
يحتفل الشعب المغربي بالذكرى السادسة والسبعين، لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، والتي تحمل في طياتها ذاكرة من تاريخ المغرب، وتختزل دلالات خالدة، تستشف منها الأجيال عبرا ودروسا.
وتختزل هذه الوثيقة النضال المشترك بين العرش والشعب، من أجل تحرير الوطن من الاستعمار الذي اختفى وراء عبارة الحماية، وبعد ذلك كشر عن أنيابه تجاه دولة لها مقومات تاريخية، وحضارية، أراد أن يطمس مقوماتها الحضارية والتاريخية ظانا بأن الحديد يخيف شعبا يقظا ناضل إلى جانب سلطانه من أجل التحرير، والقطع مع محاولات المسخ، والانتصار للإرادة الشعبية القوية.
وتختزل الوثيقة كذلك السيادة الوطنية والترابية، الذي ضحى من أجلها الشعب المغربي صيانة لكرامته وعزته. ولم يكن الأمر سهلا، بل تطلب تضحيات كبيرة وغالية ونفيسة، والأدهى من ذلك أن المستعمر تعامل مع المغرب كغنيمة مقسما إياه إلى نفوذ فرنسي، وآخر إسباني، وطنجة منطقة دولية. ولكن مهما تعددت مظاهر المستعمر وتلويناته، فقد بذل العرش والشعب مجهودا كبيرا من أجل فضح المؤامرة ، وناضلوا رغم قلة الزاد من أجل الحرية والاستقلال، لأنهم كانوا يتوفرون على إرادة قوية، هزت مطامع المستعمر، الذي فوجئ بهذه الوثيقة التي اعتبرت من العرائض الموشومة في الذاكرة المغربية.
ومنذ 1912 والشعب المغربي ينوع نضاله ومقاومته حتى وصلت الرسالة قوية إلى المستعمر، الذي فهم جيد أن العرش والشعب لن يقبلا إلا بالاستقلال، ولا شيء غير الاستقلال. وقد لعب المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه، دورا استراتيجيا في هذه المعركة التحررية، ونذكر موقفه الجريء بمؤتمر آنفا سنة 1943 عندما طالب بإنهاء الحماية، مذكرا الحضور بما قام به المغرب استراتيجيا، في مواجهة الأنظمة الديكتاتورية التي كانت تهدد العالم وقد وجد هذا النداء صدى وسط الرؤساء الحاضرين.
ومن تم تبخر مفهوم الإصلاح الذي رفعه الاستعمار، وتحول إلى الاستقلال الكامل، وبالتالي اعتبرت الوثيقة ترافعا سياسيا، وعريضة اقتصادية، وذاكرة تاريخية قوية، كما اتخذت بعدا دوليا، عندما رفعت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، والاتحاد السوفياتي آنذاك..
إذن لماذا المطالبة بوثيقة الاستقلال؟ من أجل بناء سياسة داخلية، يقودها جلالة الملك انطلاقا من منظومة إصلاحية تعتمد على نظام سياسي شوري، يعزز المواطنة اعتمادا على التلازم بين الحقوق والواجبات.وثيقة الوطنية الحقة، توحي باليقظة التي اتسم بها الشعب المغربي تحت الرعاية السامية لجلالة الملك. وثيقة تكرس الشرعية والمشروعية. وثيقة ملحمية انطلقت، ورسمت معالم مستقبلية، تلاحم فيها العرش مع الشعب.
بناء على ما ذكر نؤكد على ما يلي:
إن المغرب الأقصى له جذور في التاريخ، فهو دولة له مقوماته التاريخية، والحضارية، والدينية..وعرف بالوسطية والاعتدال، والتعايش الثقافي والديني في ظل الوحدة الترابية والوطنية، والتعاون الدائم بين العرش والشعب. لذلك فالوثيقة عبرت بروح عالية على هذا التصور وعززت الانتماء الحضاري لهذا المغرب العريق.
ومن تم تجد المغاربة يدافعون عن بلدهم بكل غال ونفيس، عبر التاريخ، لأنهم يؤمنون بأن التفريط في الأرض والتراب والحضارة والثقافة لا يليق بالشرفاء، والتاريخ شاهد على ذلك.
إن هذه الخصوصية لم تمنع هذا المغرب الأقصى من الانفتاح على الثقافة الكونية، والإنسانية باعتبار أن التلاقح العالمي ثروة إنسانية يجب أن تقدر وتحترم، لأنها سر الوجود والعيش المشترك، إنه التلاقح بين الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر .
لذلك عبرت الوثيقة على ميلاد جديد لهذا المغرب الأقصى، بعد لحظات من محاولات الطمس لمعالمه، ومنذ ذلك الحين ومسيرة التدافع التنموي تخطو خطواتها ومازالت، في ظل هذا الإرث الذي يجب أن نعض عليه بالنواجذ، لأنه يرشد انفتاحنا على التجارب العالمية.
إن الإخلاص لهذا المسار وفاء من الشعب للملكين الراحلين محمد الخامس والحسن الثاني طيب الله ثراهما وجلالة الملك محمد السادس حفظه الله. وقد تعلق الأجداد بهذا الإرث من أجل إعادة بناء تاريخ جديد للمغرب. إذن ما أحوجنا اليوم إلى استحضار هذا البناء الذي رسموه أجدادنا بالدم والقرطاس، بالتضحية والعلم، فنحن في حاجة ماسة للاستمرار في الاغتراف من هذا المعين ونحن نشرئب إلى تطوير وعصرنة نموذجنا التنموي.
إذن ما أحوجنا لقراءات متجددة لهذه الوثيقة من أجل تجديد العهد، والوفاء للمواثيق التي التحم فيها دوما العرش و الشعب خاصة في القضايا التالية: الملكية والسيادة، الوطنية والمواطنة، استمرارية التوافق على الإصلاح في الإدارة والاقتصاد والعدل والمالية والثقافة، ومواجهة الاستبداد والفساد ومواجهة احتكار الثروات، والحرية وحسن التدبير، والمساهمة في حل المشاكل العادلة بالعالم في ظل التناسق بين كل الأطراف المكونة للأمة المغربية، والتعزيز الدائم للتلاحم بين المؤسسة الملكية والشعب من أجل الاستمرارية في تنزيل منظومة الحقوق والحريات والاختيار الديمقراطي.
لكل هذا يلزم الاعتزاز بالوحدة الترابية والوطنية تحت القيادة السامية لجلالة الملك. والاستمرار في المطالبة بتحرير كل أراضينا استكمالا لوحتنا العامة، وإبرام اتفاقيات التعاون الثنائية والمتعددة الأطراف، وتوسيع دائرة الانخراط المغربي في المؤسسات الدولية والابتعاد عن الكرسي الفارغ، واستفادة كل أعضاء المجتمع من العائد الوطني لمنتوجات بلاده…