وثيابَك فَطهِّر والرُّجزَ فاهجُر.. المنهج الإسلامي والإنسان الخليفة – شيروان الشميراني
حديث النظافة الشخصية من أكثر الأمور التي تم التأكيد عليها من طرف الجميع، وأصبحت ضمن توجيهات الصحة العالمية لحماية النفس من الإصابة بالوباء، من غسل اليدين والتعقيم واستعمال المناديل وتجنب لمس الرأس والوجه، وتنظيف الملابس .. والسؤال الذي كان يتبادر للذهن هو هل هذه الأمور بحاجة إلى التذكير تجنبا للوباء أو أنها جزء من الثقافة الشخصية والعائلية المتجذرة التي لا تحتاج إلى تفكير ؟
لكن الجائحة فعلت فعلها وأبانت عن نمط من التعامل مع النظافة هو إلى العصور البدائية أو عالم الأحياء الأخرى أقرب ..إلى حد أن غسل اليدين بعد الذهاب إلى المرحاض أصبحت من العلامات المميزة للشعوب و الأفراد، التذكير بتعاليم الإسلام في النظافة الشخصية من باب التعارف بين الثقافات تصدر إجراءات التصدي للفيروس، إن هذه التعليمات أثبتت أنها ليست متقدمة وأكثر حضارية بالقياس إلى ما قبل 1500 عام، بل بالقياس إلى ما بعد 1500 عام، والذي يعني أنها من الفطرة البشرية الكامنة مع وجود البشر وليس التقدم و التأخر، فهو تعامل مع الإنسان الطبيعي من حيث هو كائن عاقل يمتلك من الشعور والاستعداد أن يكون خليفة الله على الأرض.
إنّ ألآية القرآنية التي تقول ( وثيابك فطهِّر) في مخاطبة النبي – عليه الصلاة و السلام-، تدرج المسألة ليس في تعليمات نبوية حياتية، بل في صلب التوجيه الإلهي، والأكثر من ذلك أنها نزلت في الأيام الأولى من الوحي، هي إن لم تكن الآية – السورة- الأولى فهي الآية – السورة – الثانية من القرآن جاءت في توجيه النبي محمد – صلى الله عليه و سلم-، في سياق واحد تأتي نظافة الثياب مع تكبير الله سبحانه وتبليغ دينه، لأن الإنسان الوسخ لا يأتمن على حماية الحياة والدين ومال وثروات الإنسان وأعراضهم، ولن يكون قادراً على البناء والعمران بصورة متناسقة متناغمة مع جمال الكون ونظافته و قيمه …
ما يحدث الآن من أعطاب في إدارة الحياة في التعامل مع جائحة كورونا يوضح خيانة الإنسان لبني جنسه كما هي للكون أيضا، ليس أهم علاماتها المناخ والغاز المنتشر في الفضاء و ضية التغيير المناخي، التلوث في الفضاء يودي بالحياة وإن مدنا كثيرة ممتلئة بناطحات السحاب تعتبر من أكثر المدن تلوثاً، كلها من صنع البشر.
إن أوامر النظافة في الإسلام، ليست من باب التجمل فقط، بل هي من الضروريات، ضروريات الدين والحياة، يأخذ الأمر بالنظافة في الإسلام بعدين ديني وتدين، الديني بمعنى الأمر الشرعي الإيجابي التكليفي، والتدين أي تعبير قوة الالتزام وانتظار الثواب والعقاب ..
البعد الأول الأمر ب – و ثيابك فطهر- أمر مباشر بالمفهوم اللغوي كما يقول الشوكاني بتنظيف وتطهير الثياب أي ما يلبسه الإنسان و يتستر به، من كل نجاسة، ويأتي بعد الأمر بالتكبير، الصلاة المأمور بها وهي من الفرائض والأركان الخمس، في القرآن الكريم أمر الله تعالى بالوضوء والتطهر، ابتداء من غسل الجنابة، والتطهر من النجاسة، والوضوء، ونظافة الثياب، وطهارة المكان، كلها من شروط صحة الصلاة، وهي النظافة الشاملة “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” (المائدة 6) .
كل هذه التوجيهات ديناً … وبُعد التدين، مثلا كتنظيف الفم، ففي الوقت الذي يعمل العالم من أجل نشر غسل الأسنان، فيما يقال عنها بعصور التقدم والتمدن، كان المسلمون يتسابقون في تنظيف الأسنان عبر استعمال السواك تنفيذا لسنة من رسول الله – صلى الله عليه و سلم- تديناً، وفي الوقت الذي يجري مسح حول المرافق والمرحاض، استعمال الماء وغسل اليدين، يردد المسلمون الحديث النبوي ( عن ابن عباس مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة)، وهذا أيضاً تديناً، تنضاف إليها التعليمات النبوية التي توجه الإنسان المسلم إلى أعمال الغاية منها النظافة فقط، كغسل اليدين قبل وبعد الأكل، وبعد الاستيقاظ من النوم، وغسل يوم الجمعة والتعطر تجملا وأناقة وليس هروبا من العفونة كما هو عند بعض الشعوب، وهذا أيضا تديناً، ولو جمعنا مجمل ما ينص عليه كاتالوج الاتكيت واللباقة واللياقة لا يخرج عن تلك التوجيهات النبوية إلا بقدر ما استجد نتيجة الحياة الرفهة في جانبها الكمالي غير الضروري .
إن الإسلام يتعامل مع الإنسان في كليته، فالأوامر والترغيب بالنظافة تتخطى اللباس إلى الروح، الجسم إلى القلب، المظهري إلى الجواني، لأن الحياة لا تقوم بجمال المظهر، بل المظهر ما هو إلا رمز إلى المخبر، وفي الحال وساخة المخبر يكون ذلك نقصاً، وانحرافا عن إصابة الهدف، أهل العلم والفكر لم تغفلوا المعنى الذي ترمز إليه الآية التي صدرنا بها الموضوع، إن الثياب في اللغة العربية يرمز إلى نقاء السريرة وبياضها كما يقول محمد طاهر العاشو ، لهذا الغالبية أضافت إلى المعنى اللغوي الأساسي طهارة القلب والعمل، خاصة أن ( والرجز فاهجر) جاءت مباشرة بعد الأمر بتطهير الثياب، والرجز هو الرجس ليس الشرك فقط بل كل الرجس، لأن الإنسان الخليفة المكلف بإعمار الأرض يحتاج إلى نقاء الروح والعقل والقلب والعمل حتى يكون قادرا على توجيه البوصلة بالاتجاه الصحيح، يقول سيد قطب (وطهارة الثياب كناية في الاستعمال العربي عن طهارة القلب والخلق والعمل.. طهارة الذات التي تحتويها الثياب، وكل ما يلم بها أو يمسها.. والطهارة هي الحالة المناسبة للتلقي من الملأ الأعلى. كما أنها ألصق شيء بطبيعة هذه الرسالة. وهي بعد هذا وذلك ضرورية لملابسة الإنذار والتبليغ، ومزاولة الدعوة في وسط التيارات والأهواء والمداخل والدروب وما يصاحب هذا ويلابسه من أدران ومقاذر وأخلاط وشوائب، تحتاج من الداعية إلى الطهارة الكاملة كي يملك استنقاذ الملوثين دون أن يتلوث، وملابسة المدنسين من غير أن يتدنس.. وهي لفتة دقيقة عميقة إلى ملابسات الرسالة والدعوة والقيام على هذا الأمر بين شتى الأوساط، وشتى البيئات، وشتى الظروف، وشتى القلوب!).
هذه الوحدة بين الأناقة والطِيب بين مظاهر الحياة و معانيها، ضرورتها نلمسها الآن تحت ضربات كورونا، عدم الاستتار من البول الذي يجعل الجسم مرتعا للميكروبات مقترن بستر الآخرين وعدم نشر العيوب والمشي بالنميمة لتفجير المجتمع من الداخل وإشعال الحروب المجتمعية، سلامة الجسم وصحته دون سلامة القلب لا يأتي سوى بعمران مؤقت، لأن القلب الخرب سيدمره، التغيير المناخي و تلوث أجواء المدن المأهولة الجميلة جدا، انعكاس لخراب القلب وعدم سلامة العقل..