وارتقى نجم يوسف الفاتح – سحر الخطيب
بانتهاء شهر صفر، غاب نجم د. يوسف القرضاوي، علامة العصر والزمان وعلم أمة الإسلام، قل نظيره في مجال الدعوة والبيان، جمع سحر البلاغة، وحجة العلم واتقاد الفكر ووسطية الدين وتجديد العصر. لكن هذا النجم ليس كأي نجم إنه بمثابة الشمس بالنسبة للنجوم.
وله من الخصائص والميزات ما للشمس بالنسبة لباقي النجوم. كما أن الشمس مركز الكون، احتل فضيلته رحمة الله عليه مرتبة مركزية بين العلماءـ فكان لخطبه ومحاضراته ودروسه وكتاباته الأثر الكبير في توجه من يدور في فلكه. ولهذا استطاع أن يؤسس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي ضم العديد الذي لا يستهان به من علماء الأمة. وأسس الكثير من المراكز القطرية – كليتي التربية للبنين والبنات كنواة لجامعة قطر، وبعد ذلك قسم الدراسات الإسلامية ثم في سنة 1977م كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، وبعدها مركز بحوث السنة والسيرة النبوية وكل هذه المؤسسات بنفس الجامعة.
لم يقتصر على ذلك فقط بل أنشأ أيضا مؤسسات دولية كالمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. فأينما وليت وجدت القرضاوي متواجدا وضاء مشعا كالشمس المشرقة لا تتأثر بالعوامل الخارجية من مد وجزر كما هو حال النجوم الأخرى، فنورها وضوؤها ينتشر بسرعة كبيرة، متحكمة بذلك في مدارات الكواكب وباقي الأجسام. فبما تنشئه الشمس من حرارة وضوء، تنمو الحياة وتتطور على الأرض، التي لم يكن لها وجود دون تدفق إشعاعات الشمس في انتظام واستمرارية.
على غرار هذا الجرم السماوي المشع، كان د. القرضاوي رحمه الله، يمد الساحة الفكرية والعلمية والدعوية والأدبية من أدناها إلى أقصاها، باتقاد فكره ونور قلبه وفيض علمه ببصيرة المؤمن ذي الرؤية المتوازنة. ولهذا يجدر بنا بحق أن نطلق عليه اسم الفاتح، فكما أن الشمس تفتح لبعث الحياة صباحا، كان الشيخ القرضاوي، رحمه الله، فاتحا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ومن مغزى.
كان فاتحا للعقول، عقول العامة والخاصة على حد سواء، فعموم الناس تمكنوا من فهم دينهم والخاصة اقتنعوا بنير أفكاره، فكان رحمه الله متفردا في طرحه، مترفعا على الاختلافات والنزاعات الفكرية، مصوبا فكر المغالاة المتطرف والفكر المنطلق بلا حدود المسوغ للرخص، واجه جميع التيارات الفكرية من ماركسية وشيوعية ورأسمالية وعلمانية وعمل على ترشيد فكر الصحوة موجها ومصوبا لعمل الحركة الإسلامية.
إذا شئنا يمكن أن نقول أنه تولى شرف ومهمة التنظير لفكر النهضة، معلنا القطيعة مع الفكر الاستئصالي، مجمعا لمختلف التفرعات الفكرية آخذا بها إلى منهج الوسط، صاهرا إياها في بوتقة واحدة متضامنة تمت مسمى “العاملين للإسلام”، كل واحدة تثري الأخرى بمزاياها. من هذه البوتقة، انطلق هذا الفاتح الكبير متوسعا إلى آفاق رحبة وفضاءات ممتدة فأصبحت مؤلفاته وأفكاره ومواقفه مرجعا للكثير من الحركات الإسلامية، إذ أضحت هاته الأخيرة رقما صعبا في المجتمع وفي المعادلات السياسية والاقتصادية والثقافية. فحقق الوحدة التي طالما كانت الأمة الإسلامية تنشدها ولو كانت هذه الوحدة مرسومة المعالم فقط على المستوى الفكري النظري.
ولفتح العقول، أتاه الله موهبة التعبير والكتابة بلغة فصيحة واضحة في متناول فهم الجميع، فأوتي السهل الممتنع، جعلت فكره ينساب انسياب الماء في الأرض بسلاسة وعمق وانسياب أشعة الشمس بدفء وحرارة.
فضلا عن فتح العقول، أخذ الشيخ القرضاوي بثنايا القلوب أيما مأخذ، وألهب وجدانها، بالكلمة الطيبة والتيسير والسماحة التي عودنا عليها، كما أنه كان ينظم شعرا رسخ لأحاسيسه ومشاعره اتجاه قضايا الأمة، فكل من يقرأ هذا الشعر ويسمع لخطبه الحماسية، تتملك قلبه لواعج الدعوة وقضايا الأمة، أيا كانت القضية، فلسطينية أو بوسنية، أو كشميرية، أو أفغانية أو ألبانية….. إضافة إلى ذلك، من خلال منهجية التبشير والتيسير والوسطية التي انتهجها، فتح قلوب القاطنين في الديار الأجنبية التي سماها ديار الدعوة عوض دار الكفر في مقابل دار الإسلام. فصالح بين المهاجرين المسلمين وبين بيئاتهم التي يمضون فيها أعمارهم الدنيوية فحقق لهم التناغم والانسجام بين ما يعتقدون وبين ما يعيشون محققا بذلك على أرض الواقع خاصية العالمية التي تميز دين الإسلام.
من فاتح للعقول والقلوب، تميز أيضا فضيلته بكونه فاتحا للأنفس، فقد بث روحا خفية دبت بين أضلاع العباد. وتغلغلت بلطف في أنفس الخلق. فأصبح للتدين خلد آخر، فقد خلصه من الجمود والتعصب وبعث فيه التجديد ومواكبة العصر، كما أخرجه من الإغراق في الروحانية وطغيان المادية. وقد أجاد فقه الأنفس بعد أن استقى معالمه من القرآن الكريم.
جسد فضيلة الشيخ القرضاوي تجسيدا قل نظيره للخصائص العامة للإسلام ربانية وشمولا وعالمية وتوازنا واعتدالا وتجديدا وانفتاحا على القضايا المعاصرة. ولهذا فتح العقول والقلوب والأنفس جميعا، كما كان له السبق في فتح مجالات جديدة للعمل الإسلامي، وفي فتح خزائن الوحي ومغاليق الوعي.
بوأت كل هذه الفتوح فضيلة الشيخ مرتبة عظمى في هذه الدنيا فارتقى مقاما كالشمس في السماء وارتقى شهادة يوم أن علا نجمه إلى دار البقاء. ندعو الله سبحانه أن ينزله منازل الشهداء مثل ما تمنى وأن يبوئه الدرجات العلا في الجنة مع أنبيائه المخلصين وشهدائه المخلصين وصالحيه البررة الميامين. اللهم آمين
في تأبين الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله
الدار البيضاء فاتح ربيع الأول 1444 / 28 سبتمبر 2022