هكذا أنظر إلى العقيدة في عصر طوفان الأقصى – حسن المرابطي

كما نعلم جميعا، فإن موضوع العقيدة مزال محط اختلاف الباحثين حديثا، كما كان سبب تطاحن الفرق الإسلامية قديما، حتى سجل التاريخ أن بعض الأمراء أرغموا الناس إرغاما، بما فيهم العلماء والوعاظ، بتبني فهم للعقيدة دون سواه؛ وقد لا يوجد بيننا من لم يسمع عن فتنة خلق القرآن، كما أن التاريخ لن ينسى محنة الإمام أحمد بن حبل معها وما تعرض له من تعذيب وسجن وغيره من العلماء الآخرين، فضلا عن السجالات التي عرفتها الأمة بخصوص فهم العقيدة لاسيما في العصر العباسي الذي ترجمت فيه كتب الفلسفة اليونانية وما أحدثتها من تأثير في الفكر الإسلامي الذي استمر إلى عصرنا اليوم، والذي ما زال يشهد هذه الخلافات العقدية، ويحتدم النقاش،بين الفينة والأخرى، بخصوصها ما يسبب اتساع رقعة الخلاف والاختلاف بناء على فهم العقيدة، وهكذا.

وعليه، فإن أي محاولة لحسم النقاش في قضايا العقيدة والتي كانت محط اختلاف المسلمين،قديما وحديثا، سيكون مصيرها الفشل، لمجموعة من الاعتبارات، قد يكون من أهمها اختلاف مدارك الناس بشكل عام،فضلا عن محاولة تقديم تصور لأمور غيبية لا تحكمها قوانين الحياة الفانية ما يجعل التعبير عنها في غاية التعقيد؛ لذلك، قبل الخوض في النقاش حول أمور العقيدة لابد من استحضار ما أشرنا إليه، إضافة إلى التذكير بأن هذا المصطلح لم يعرفه المسلمون ابتداء، وإنما المصطلح المستعمل في فجر الإسلام والذي ذكر في القرآن الكريم والسنة النبوية هو “الإيمان”.

ولهذا، لا بأس من تبني، خلال هذه المقالة، أو قل التنبيه إلى إحدى الآراء القائلة أنه منذ ظهور استعمال مصطلح العقيدة تم تعقيد قضايا الإيمان  لاعتمادها على المنطق اليوناني المادي في فهم الغيبيات، والذي يستدعي بالضرورة، شئنا أو أبينا، التعامل مع الغيبيات كتعاملنا مع الأشياء المادية ما يسفر عن اضطرابات في المفاهيم والتعبيرات، التي تؤدي في آخر الأمر إلى الاختلاف والخلاف؛ في حين، نجد أن مصطلح الإيمان الذي ذكر كثيرا في القرآن الكريم والسنة النبوية ينبني على الوجدان والعمل في آن واحد، وهو بعيد على تعقيدات الفلسفة اليونانية التي تحمل في ثناياها ما يخالف فلسفة الإسلام؛ كما نجد أيضا أن معالجة القرآن الكريم لمسألة الغيب عموما، وبشكل أخص طريقة الحديث عن أسماء الله وصفاته، تركز على استبعاد المنطق المادي المبني على الحس، والتي تتجلى في قوله عز وجل: “ليس كمثله شيء”، وقال عز وجل: ” لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير”.

ولمزيد من التمثيل، لا بأس من التذكير بالحديث القدسي الذي يصف الجنة،حيث قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفي بعض رواياته: ولا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل”؛ أي أن إدراك البشر للجنة التي تعتبر من الغيبيات مهما بلغ يبقى محدودا ومنتهيا، وخيال البشر قاصر على تصورها، وبالأحرى إدراك ذات الله عز وجل، وهكذا؛ بمعنى أن محاولة البعض التركيز على لغة الوصف والتجسيد عند الحديث في الغيبيات، إما قصدا لخلل في المنهج أو مجاراة لنقاشات فرضت نفسها تودي بصاحبها الوقوع في ما يستنكره على غيره، غالبا ما توسع الخلاف والاختلاف بدل الحد منه؛ فضلا عن بعض القضايا التي يعتبرها البعض من صميم العقيدة وفي حقيقتها قضايا تتسع لأكثر من تأويل وتقبل أكثر من تحليل وتفسير لارتباطها بما هو متغير ولا يسكن على حال؛ ولعل قضية الولاء والبراء من مثل هذه القضايا حتى إن تم الإجماع على المبدأ العام، فإن تنزيله على أرض الواقع تتحكم فيه الكثير من المتغيرات وهكذا.

وبالتالي، فإن أمر العقيدة الذي يتذرع به البعض للقول بانحراف فرقة دون أخرى، والغوص في نقاشات معروفة النتائج، آن الأوان لمساءلتهم عن الفائدة من إثارة النقاش حول ما تم الاختلاف عليه قديما وحديثا من أمور العقيدة بين الفرق الإسلامية المنضوية تحت راية أهل السنة والجماعة؟ وبصيغة أدق: ماذا حققت هذه العقيدة بمختلف مفاهيمها ومصطلحاتها في تحقيق الإيمان ورفع راية الإسلام، وما تجليات كل تلك المفاهيم على أفعال القائلين بها، ودور ذلك في أداء الأمانة التي تحملها الإنسان وهو في كامل حريته؟ وبصيغة مجملة: ماذا تحقق من هذه العقيدة على أرض الواقع في عصر طوفان الأقصى، والذي امتاز فيه المجاهدون من حركة حماس وغيرها في إعطاء القدوة للإيمان بالله والدفاع عن دينه؟ فضلا عن تحقيق ما تعنيه كل أسماء الله وصفاته من قوة وحكمة وعزة،وتجسيد لحقيقة الإيمان بالجنة والنار، وأن الله مالك يوم الدين، وذلك بالأفعال وليس بالأقوال.

وعليه، لو تتبعنا مجموعة من المفاهيم التي تثير نقاشات عند المهتمين والمركزين على دقائق العقيدة، لوجدنا أن أهل غزة بقيادة حركة حماس، وفلسطين عموما،أجدر الناس باتباعهم فيها، وذلك للتحقق الفعلي لمقتضيات العقيدة كما تم التأسيس لها؛ ومن ذلك مثلا كما نعلم، فإن مفهوم معية الله التي أثارت جدلا ونقاشا، وكانت وراء تبادل التفسيق بين بعض التيارات؛ لكن في غزة،عند عموم الشعب وبالأخص عند قادتهم، تلمس الإيمان الحقيقي بمعية الله في أفعالهم وأقوالهم بعيدا عن كل التعقيدات الحاصلة عند رواد أصحاب العقيدة، كما تمثلوا قول الله عز وجل بكل يقين ومحبة: “الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل”.

وهكذا نجدهم تفاعلوا مع مفهوم الأسماء والصفات بطريقة عملية بعيدا عن كثرة النقاشات والتفلسف؛ حيث قدموا أنفسهم وأموالهم من أجل التنزيل السليم لما تقتضيه أسماء الله وصفاته، فتراهم كلهم حب ورضا بما آتاهم الله، لا يسخطون ويغضبون إلا مما يسخط ويغضب الله منه،متمسكين بالله وهم في أعلى درجات القوة والعزة التي يستمدونها من عزة الله ورسوله رغم كل الظروف التي يمرون منها، بل تجدهم في قراءتهم للقرآن الكريم يتمثلون من يسمعون كلام الله وفي دعائهم كأنهم أقرب الناس إلى الله من غيرهم؛ وأما قضية الولاء والبراء، فقد أبدعوا في إتقانهم تمثيل هذا المفهوم العقدي، إذ قدموا كل شيء في التشبث بمقدسات الأمة ولم يبالوا يوما من فقدان القريب والصديق إن رأوا ما يعارض الدفاع عن القدس مسرى نبينا عليه الصلاة والسلام؛وهكذا حالهم مع مصطلحات العقيدة بشكل عام.

وبخلاصة، فإننا لو وقفنا على حال المرابطين في فلسطين، وعلى رأسهم حركة المقاومة الإسلامية حماس، لطال المقال بنا في وصف إيمانهم وعقيدتهم السليمة والتي تخلو من التعقيدات التي نشأت مع بداية النقاش أول الأمر؛ ولذلك نرى ضرورة التنبيه إلى إعادة النظر إلى مفهوم العقيدة، ولما لا الاستفادة من الفلسفة الائتمانية التي يقودها الفيلسوف طه عبد الرحمن، ومحاولة تنزيلها على أرض الواقع، لاسيما في عصر طغت فيه الفلسفة المادية للأشياء والمعاني، ولم يسلم منها للأسف حتى بعض المتدينين والفقهاء وغيرهم؛ حيث نجد أن التعامل مع مفهوم العقيدة اتسم بالامتلاك بدل الائتمان، وكأن لسان حال المتحدث في العقيدة يحاول امتلاك أمور الغيبيات وإدراك الذات الإلهية، بينما في الفلسفة الائتمانية تسود فيها علاقة ائتمان، شعارها الخفي والظاهر، في آن واحد،هو العمل على أداء الأمانة المنوطة بالإنسان والتقرب إلى الله بما تقتضيه أسماؤه وصفاته بالأفعال بالدرجة الأولى.

 

وبكلمة أخيرة، نقول: آن الأوان للانشغال بأداء الأمانة حتى يزداد إيماننا بالأفعال وليس بادعاء امتلاك المعرفة بالله نظريا؛ ذلك أن الإيمان لا يتحقق بالأقوال وحده ولا بمحاولة التعرف على الله من خلال التعمق في وصفه أو ادعاء الاعتراف بوجوده، لاسيما أنه سبقنا من اعترف بوجوده، بل له كامل المعرفة بكل صفاته وأسمائه، لكن أفعاله جعلته من الكافرين رغم اعترافه بعزة الله وجبروته، قال تعال: “إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ؛قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ؛ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ، خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ؛ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ؛وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ؛ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ؛ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ؛ إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ؛ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ؛ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ؛”.

 

وعليه، فإن تمكننا من تفاصيل العقيدة، كما يتم في كثير من الأحيان عرضها، لن يشفع لنا في زيادة الإيمان ولا بلوغ درجات عالية من اليقين، ولعل المقولة المنسوبة للإمام الرازي أصدق حالا، حيث قال: “اللهم إيمانا كإيمان عجائز نيسابور”، أو ما أكده المفكر الكبير د. مصطفى محمود الشعور بالدونية وهو يرى أباه يناجي ربه، ويتمنى لو أنه يصل إلى درجة إيمان والده والبسطاء الذين لا يلتفت إلى حضورهم أحد، لما أدركوه من المعاني الروحية دون مشقة ولا تعب؛ ما يعني أن التركيز على رصد بعض التصريحات أو الأقوال للمجاهدين الذين باعوا أنفسهم لله ومحاولة تقييمها لن يزيد في المرء إلا الابتعاد عن الإيمان الحقيقي وإذكاء الخلافات التي لم تحسم يوما ولن تحسم لأن في ذلك تعامل مع الغيبيات بلغة حمالة أوجه، فضلا عن تأثرنا بانغماسنا في الماديات رغم ادعاء التجريد.

اللهم ارزقنا المنطق والعمل به، ووفقنا إلى التقرب إليك بطاعتك واجتناب معصيتك، واجعلنا ممن قلت فيهم: “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا”.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى