هذه الأضاحي .. ما دلالتها وما مقاصدها؟ – د.محمد بولوز
لعلنا وصلنا إلى زمن ضرورة تجديد معاني الدين والحديث في البديهيات الأولية والأصلية، وبسط مقاصد كل شيء يمت بصلة بديننا، وذلك لما نبتت عندنا نابتة قليل عددها يراد النفخ فيها لتبدو أقلية تفرض التنوع و”الاحترام” بل يراد بزعم وجودها تغيير بنية النظام الذي يحكمنا والمبادئ التي تجمعنا حتى نغدو بغير طعم ولا لون ولا رائحة وحتى نعبر بحق عن التعددية والحداثة والديموقراطية الحقة، ولئن كان الأمل ضعيفا في أولئك المشوشين، فلا أقل من تحصين الناشئة وبعض الفئات الهشة في تصوراتها وقناعاتها حتى تثبت ويجدد عندها الحماس لأصولها وثوابتها وسننها الحضارية العريقة، لأن كثيرا من المعاني قد تذبل مع مرور الزمن وتغيب فيها المقاصد ويتشبث الناس بالأشكال، ولعل هذه الأضاحي والأكباش مما حدث في شأنها شيء من ذلك حتى أصبحنا نرى العجائب من مثل الدعوى إلى إلغائها ومن مثل الاقتراض بالربا لأداء هذه “العبادة” وغير ذلك..
ولعل أول تساؤل قد يثار بخصوص هذه الشعيرة، هو ما علاقة الأضاحي بالعبادة؟ أليست مجرد عادة اجتماعية توارثتها الأجيال؟ أليست مجرد مناسبة سنوية يتم فيها “الانتقام” من فتات الجزار لمن يقدر عليه مرة في الأسبوع أو مرتين عند فئات عريضة من ذوي الدخل المحدود، فتتاح لهم فرصة الشي والقلي ودخان الشحوم التي تملأ الغرف والأفنية وتخرج من النوافذ والأبواب، وفرصة للقديد والكباب الذي “يفتح للصحة ألف باب”..
إن رجوعنا للمعاني الشرعية لهذا الفعل أو اسم الأضحية نجدها لحسن حظنا لا تزال مضمرة في الإسم ذاته، فضحى بالشاة: ذبحها ضحى يوم النحر أي يوم العيد، والضُّحى: حينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ فَيَصْفو ضَوْءُها. والأضحية شرعا اسم لما يذبح من بهيمة الأنعام (الإبل والبقر والغنم) يوم النحر من بعد صلاة العيد إلى آخر أيام التشريق ( وهو الثالث عشر من ذي الحجة) تقرباً إلى الله تعالى، فكما يتقرب العبد إلى ربه بالصلاة والصيام والحج والزكاة والدعاء والذكر ونحو ذلك يتقرب أيضا بذبح هذه الأنعام.
ولهذا لا يجوز أبدا أن يكون الذبح لغير الله سواء كان على بئر أو عتبة دار أو ضيعة جديدة أو “ولي” أو قبر وما في حكم هذه الأشياء، ويحرم ما ذكر عليه اسم غير الله فيضاف إلى المحرمات الأخرى ”مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ”(الانعام ١٤٥) وكما قال تعالى أيضا:” وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ” (الانعام:١٢١) فالأصل كما نتقدم بين يدي الله بالصلاة نتقدم بالنحر أيضا بين يديه.
قال الله تعالى : (فصلّ لربك وانحر) (الكوثر) وقال سبحانه : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ )(الحج:67) وقال عز من قائل:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (35) ) (الحج) . وقال تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)) (الأنعام:162-163) ، قوله (ونسكي ) أي ذبحي .
وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر.
فهذه الأضاحي سنة مؤكدة كما ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء. قال البخاري في صحيحه في كتاب الأضاحي: باب سنة الأضحية فقال الحافظ ابن حجر في الشرح وكأنه ترجم بالسنة إشارة إلى مخالفة من قال بوجوبها، وقال الحافظ أيضاً، قال ابن حزم : لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة وصح أنها غير واجبة عند الجمهور ، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين ، وهي عند المالكية والشافعية والجمهور سنة مؤكدة ، وعن أبي حنيفة : تجب على المقيم والموسر .
وروى الترمذي أن رجلاً سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن الأضحية أهي واجبة؟ فقال : ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده ، قال ابن رشد:(ومذهب ابن عباس أن لا وجوب، قال عكرمة بعثني ابن عباس بدرهمين أشتري بهما لحما وقال من لقيت فقل له هذه أضحية ابن عباس وروي عن بلال أنه ضحى بديك)(بداية المجتهد ج1 ص314)
ودعما لمذهب السنية قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم أن الأضحية ليست بواجبة، وقال الشيخ ابن عثيمين من المعاصرين بعد أن ذكر أدلة القائلين بالوجوب والقائلين بعدمه : والأدلة تكاد تكون متكافئة، وسلوك سبيل الاحتياط أن لا يدعها المسلم مع القدرة عليها لما فيها من تعظيم الله وذكره وبراءة الذمة بيقين.
وقد أطلت القول قليلا في بيان الحكم حتى يفهم أن التكلف لهذه العبادة ليس مقصودا بل وحتى على فرض الوجوب على رأي البعض فلا يجوز إتيان الطاعات والتقرب إلى الله تعالى بالمال الحرام، فمن يلجأ إلى الاقتراض بالربا يبتعد من مولاه عوض أن يتقرب إليه، فالله تعالى طيب لا يقبل غير الطيب، ولعل صاحب هذا الفعل تهمه العادة و الضغط الاجتماعي أكثر ما يعنيه أمر النسك والعبادة، وإلا فالربا من الكبائر العظيمة ومن السبع الموبقات التي يفر منها المومن فرارا.
قال الله تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) البقرة. وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتنبوا السبعَ الموبقاتِ. قالوا : يا رسولَ اللهِ ، وما هن ؟ قال : الشركُ باللهِ ، والسحرُ ، وقتلُ النفسِ التي حرّم اللهُ إلا بالحقِّ ، وأكلُ الربا ، وأكلُ مالِ اليتيمِ ، والتولي يومَ الزحفِ ، وقذفُ المحصناتِ المؤمناتِ الغافلاتِ” وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: ”لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال : هم سواء.”
ولعل البعض يشير إلى أن الزيادات في تلك القروض الخاصة بالأضاحي يسيرة وقد لا تتعدى “ثمن الملف” وهنا نستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم حيث روى الترمذي وغيره وصححه الألباني عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”الربا ثلاثة و سبعون بابا، و أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، و إن أربى الربا عرض الرجل المسلم”، وجاء في الترغيب للمنذري وصححه الألباني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم .”
وفي صحيح البخاري رواية عن احتياط السلف في أمر الربا عن أبي موسى الأشعري قال: أتَيتُ المدينةَ، فلَقيتُ عبدَ اللهِ بنَ سلامٍ رضي اللهُ عنه، فقال : ألا تَجيءُ فأطعمَك سَويقًا وتمرًا وتدخُلَ في بيتٍ، ثم قال : إنك بأرضٍ الرِّبا بها فاشٍ، إذا كان لك على رجلٍ حقٌّ، فأهدَى إليك حِملَ تِبنٍ، أو حِملَ شَعيرٍ، أو حِملَ قَتٍّ، فلا تأخذْه فإنه رِبا، أي قدر ما يحمله الحمار ونحوه وخص الهدية بما تعلف به الدواب من تبن وشعير مبالغة في الامتناع عن شبهة الربا.
وليس ثمة من ضرورة في الأضحية كشأن الضروريات التي قد تلجئ للحرام، ولا شك أن ولوج هذه المسلكيات ينبئ عن ضعف في استحضار مقاصد هذه العبادة إما جهلا أو غفلة، والحال أن الله تعالى شرع لعباده هذه السنة لحكم وفوائد كثيرة منها:
- التحقق بتقوى الله عز وجل قال تعالى: (لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ) [الحج:37: ” فإن الخالق الله تعالى الرازق لا يناله شيء من لحومها ولا دمائها، لأنه تعالى هو الغني عما سواه، إنما هي للعبد ابتلاء واختبار وقربة وتضحية ببعض ماله ابتغاء وجه ربه .
- وهي مناسبة لذكر الله على ما وهب من بهيمة الأنعام، فالمضحي يذكر الله تعالى على أضحيته عند ذبحها كما قال تعالى (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام..) (الحج:28) وتعبير من العبد على دخوله في الدين كله بجميع كيانه وسلوكه وأعماله (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) (الأنعام:162).
- ومن ذلك شكر الله تعالى بتذكر نعمه التي أغدق علينا وأحلها لنا، وإيجاد الفرص للعباد للشعور بها وتلمسها عن قرب، ولو تركوا لحالهم لما فكر البعض في التوسيع على أنفسهم وعيالهم، ولشغلهم التكاثر وجمع المال عن مثل هذه السنة السنوية، قال تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)) (الحج) أي: وجعلنا لكم نَحْرَ البُدْن من شعائر الدين وأعلامه؛ لتتقربوا بها إلى الله، لكم فيها- أيها المتقربون -خير في منافعها من الأكل والصدقة والثواب والأجر، فقولوا عند ذبحها: بسم الله. فإذا سقطت على الأرض جنوبها فقد حلَّ أكلها، فليأكل منها مقربوها تعبدًا ويُطْعِمُوا منها القانع -وهو الفقير الذي لم يسأل تعففًا- والمعترَّ الذي يسأل لحاجته، هكذا سخَّر الله البُدْن لكم، لعلكم تشكرون الله على تسخيرها لكم.
- ثم من مقاصدها التوسعة على الناس خاصة الفقراء والمساكين في هذه الأيام المباركة، حيث جاء في الحديث : “إنما هي أيام أكل وشرب وذكر الله” ، فيشارك الفقراء والمحتاجون الأغنياء والقادرين في أكل اللحم في هذه الأيام المباركة. قال سبحانه : ( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) (الحج:28) أي الفقير الذي اشتد فقره.
- ويمكن لسنة الأضحية أن تكون سندا قويا في لحظات استثنائية من حياة المجتمع والأمة، عند وقوع نكبات ومصائب وكوارث كالزلازل والفيضانات، وجهاد العدو ودفع عدوانه عن أقطار المسلمين كحال إخواننا في غزة هذه الأيام، حيث أفتى بعض العلماء وحث على توجيه ثمن الأضاحي إلى المستضعفين هناك والمجاهدين المنافحين عن شرف الأمة وكرامتها ومقدساتها، وهذا بالطبع لمن لا يستطيع الجمع بين ذبح الأضحية وإرسال ثمنها أو بعضه لهذا المقصد، وإلا فالجمع بين الحسنتين أولى وأفضل لمن قدر واستطاع.
- ومن مقاصد سنة الأضحية ما يقع من رواج اقتصادي وانتفاع الفلاحين وازدهار العديد من المناشط الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالمناسبة. وكذا توثيق الروابط الاجتماعية بصلة الرحم والتزاور السهل والضيافة الميسرة والمرغوب فيها مع توفر لحم العيد.
- ومن أعظم مقاصد الأضحية إحياء ذكرى نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام حيث فدى الله إسماعيل من الذبح بالكبش العظيم، وفي هذه القصة من العبر الشيء الكثير، منها طاعة الله تعالى مهما كان الأمر الذي كلفنا به، وشكره لله تعالى على هذا الفداء والتخفيف على نبيه إبراهيم وابنه إسماعيل وعلى الأمة الإسلامية إلى قيام الساعة، وطاعة الولد والديه في المعروف وما يرضي الله تعالى، والتضحية بكل غال ونفيس في سبيل الدين الحق وإعلاء كلمة الله، فقصة ابراهيم عليه السلام تعطي النموذج والقدوة في اليقين والبذل والتضحية، وهل الدين إلا اليقين والثقة في رب العالمين والتضحية بالوقت والجهد والمال بل وحتى النفس في سبيل الله وفي سبيل مرضاته؟
لو كنا نستحضر فقط بمناسبة عيد الأضحى هذه القصة وما فيها من أبعاد إيمانية ومقاصد تربوية وما فيها من تزكية للنفوس والعقول والقلوب، لكفاها فائدة ونعمة عظيمة، كلما اشتدت بنا لذة النوم عن صلاة الفجر قلنا أين التضحية بهذا النوم من قصة إقدام إبراهيم ع عن التضحية بابنه وفلذة كبده ع؟
وكلما استبد بنا حب المال عن إخراج الزكاة وحق الفقراء في أموالنا قلنا أين هذا المال من قصة إبراهيم ع؟ وكلما تحركت فينا شهوة الرغبة في الحرام قلنا أين التضحية بهذه الشهوة العابرة من هم أبي الأنبياء بذبح ابنه ع ؟ وكلما نادى منادي الواجب الديني والوطني وواجب نصرة قضايا الأمة قلنا أين هذه التضحيات المطلوبة من تضحية خليل الرحمن وابنه البار إسماعيل عليهما وعلى رسولنا أفضل الصلاة وأزكى التسليم؟
حينها ستكون الأضحية ويكون العيد أعيادا في الصلاح والإصلاح وخير البلاد والعباد.