هذا رسول الله، فيا ليت قومي يعلمون – بنداود رضواني
يا ليت قومي يعلمون:
أن مشاعر الإفتقار إلى الله والحاجة إلى الخالق، لم تفارق أبدا نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام في جميع أحواله إلى أن لقي ربه…
لقد هيمنت آيات افتقار الخلق إلى ربهم – من سورتي فاطر ومحمد وأمثالهما – على كيانه، وأخذت بمجامع جنانه منذ اللحظة الأولى لنزولها.
لذا ما فتئ عليه الصلاة والسلام يرددها ويتمثلها…، وما تردد في التذكير بها ودعوة الناس إليها….
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ )، فاطر/15، ( وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم )، محمد/38.
لقد أمضى حياته كلها عليه الصلاة والسلام في كنف الإفتقار إلى الله، لأنه أعرف الناس بعظمة ربه، وفي نفس الآن كان أشدهم إدراكا واعترافا بعجزه الذاتي وضعفه الشخصي، فصار بذلك فؤاده يرجف دائما بأحاسيس التذلل لربه سبحانه، ويخفق بمشاعر الحب والانقياد لسيده ومولاه….
بدت في الأذكار التي لهج بها، إذ يقول عليه الصلاة والسلام : ” اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، اغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت “، أخرجه البخاري.
وتجلت في العبادات التي نهض بواجبها، ومشاعر الضعف والعجز التي فاض قلبه بهما، فهو لا ينقطع في ركوعه عن قول ( اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت. خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي ) رواه مسلم.
وفاضت كذلك هذه العواطف النورانية مع العبرات التي سكبتها عينه، وجرت بها مقلته، فعن مطرف عن أبيه قال: ” أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل، يعني يبكي “. رواه النسائي وغيره، وصححه الشيخ الألباني.
فيا ليت قومي يعلمون…، ليتهم يعلمون سيرة نبيهم فيقتدوا به في افتقاره، ويستنوا به في خشوعه وانكساره أمام ربه… يا ليتهم يدركون أن سبب المكدرات والهموم التي تطوقهم…، وأن أصل الشرور ومنبت الطغيان والجحود اعتمادهم على ما سوى ربهم، وتعلقهم بوهم الإستغناء عن خالقهم، ( كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ،إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ ) العلق/8.7.6.
قال ابن القيم: : “وما أتي من أتي إلا من قبل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء، ولا ظفر من ظفر بمشيئة اللـه وعونه إلا بقيامة بالشكر وصدق الافتقار والدعاء.” الفوائد ص181.
ويقول سهل التستري: ” ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار” . مجموع فتاوى ابن تيمية، 10/108.
يا ليت قومي يعلمون:
أن أصبر الخلق وأشدهم تَصَبُّرا، وأقواهم شكيمة وتحملا….رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما غضب قط لنفسه وما اهتاج، وما أخذ ثأره من أحد لذاته وما انتقم لها.
بل أطاق الإيذاء وتجشم البلاء…. لأن ديدنه الصبر وخلقه الصفح، فما قابل أبدا السيئة بالسيئة، بل يقابل السيئة بالحسنة، لكن حين تنتهك حرمات ربه لا يستبطئ أن ينتقم لها. فعن أَنس رضي الله عنه قال: “كُنتُ أَمْشِي مَعَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانيٌّ غلِيظُ الحَاشِيةِ، فأَدْركَهُ أَعْرَابيٌّ، فَجَبَذهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَديدَةً، فَنظرتُ إِلَى صَفْحَةِ عاتِقِ النَّبيِّ ﷺ وقَد أَثَّرَتْ بِها حَاشِيةُ الرِّداءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِن مالِ اللَّهِ الَّذِي عِندَكَ، فالتَفَتَ إِلَيْه، فضَحِكَ، ثُمَّ أَمر لَهُ بعَطَاء ” متفق عليه.
فلم الجزع مما قضى الله به وحكم….؟ أليس القائل: ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) هو الله؟، ولم الضجر من تصاريف الأقدار… ورسول الله يقول : ” ما رزق عبد خيراً له ولا أوسع من الصبر”، متفق عليه.
والحق أن ليس للعبد أوثق للاستمساك به من حبل الاصطبار، وليس له بابا ينطلق منه إلى ساحة العبودية أوسع له من باب الصبر..
فكل من اصطبغ بصبغة الصبر وتحلى بها، فقد أدرك حقيقة المكاره والإبتلاءات التي قامت عليها هذه الدنيا.
لأنه من جانب، فقه جوهر العبودية الكامن في متلازمة المنغصات من أجل أن يتحمل العبد ويصبر، ومن جانب آخر وعى الإحسان الإلهي المركوز في كبد المنن والعطايا حتى يسمو إلى مقام الشكر والثناء عليه سبحانه ( وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ )، الأنبياء/35.
يا ليت قومي يعلمون:
حال هذا النبي الكريم مع الناس، ومدى قربه عليه الصلاة والسلام منهم ومن أحوالهم، فهو دائم التواضع لهم، و الرعاية لمصالحهم، وسماع شكواهم، والنزول لأسواقهم ( وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ )، الفرقان/7.
بل في أقوى لحظات الانتشاء بالانتصار على الأعداء، لا يرضخ صلى الله عليه وسلم لأوهام التكبّر ولا لوساوس التجبر، وإنما يزيده الظفر تواضعا لله عز وجل الذي نصره بعد ضعف، وأعزه بعد عسر…
في قمة النصر يدخل مكة عليه الصلاة والسلام وهو يركب ناقته، مطأطأ الرأس حتى لتكاد تمس ظهر راحلته، شكرا لربه تعالى وحياء منه، و هو يردد آيات سورة الفتح ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ) 3/2/1. يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في ” فقه السيرة “: ” إن هذا الفتح المبين ليذكره صلى الله عليه وسلم بماض طويل الفصول كيف خرج مطاردا، وكيف يعود اليوم منصورا مؤيدا، وأي كرامة عظمى حفه الله بها هذا الصباح الميمون، وكلما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعا وانحناء” ص381.
فما بال أناس لما انتشلوا من الفقر المادي تكبروا..!!!
و حين تدرجوا في سلم الوجاهة تجبروا…!!!.
وما بال آخرين لما ارتقوا في مدارج العلم…
وعندما ترقوا في التراتيب الإدارية…تنكروا للوالدين والإخوان، و أعرضوا عن الأصدقاء والجيران..
نسي هؤلاء أن النعم التي يتفيؤن ظلالها قد وافتهم من المعطي الكريم سبحانه، وأن الآمر بالعطاء، هو الآمر نفسه بالسلب بعد العطاء ( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ )، النحل/53.
لقد حجبت الغشاوة بصائرهم هؤلاء عن رؤية كم من وجيه صار وضيعا، وغني أضحى فقيرا..، وعالم أضحى جاهلا ….!!!
يقول الشاعر:
تواضعْ كما النجم استبان لناظر
على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يرفع نفسه
إلى طبقات الجو وهو وضيع.
فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، واملأها بالإفتقار إليك وجملها بالصبر على قضائك، وألبسها حلل التواضع لخلقك….يارب.