نقد العقل السياسي – نورالدين قربال
نقد العقل السياسي كتاب للمؤلف “ريجيس دوبريه”. ترجمه الدكتور عفيف دمشقيه. الصادر عن دار الآداب، بيروت. ط.1 س. 1986.
اشتغل الكاتب بالسياسة عندما عرف السجن ما عبر عنه بتأخر الوعي عن التجربة، لأنه لا يستسلم لأمر غير متوقع، قد ساعده السجن بالاطلاع على مجموعة من الكتب مما أيقظ وعيه، فاقتنع بأن الرؤية النضالية عندما تفصل عن أفقها تظل تدور حول نفسها. معتبرا الصبغة الدينية في معارك النضال واقع ينتمي إلى تاريخ الأمس واليوم. إذا أراد المرء دراسة الناس فعليه أن ينظر قريبا منه، وإذا أراد دراسة الإنسان عليه أن يسرح نظره بعيدا مع البحث عن الخصائص. لقد كان متأثرا باجتهادات علم الإنسان عند جان جاك روسو.
لقد اعتبر الأمر السياسي موجودا في السياسة، وهي في طور البداية. والسرفي هذا هو في الشيء نفسه. متسائلا عن المفاجأة السياسية أمام التحولات التقنية والاجتماعية التي تعرفها البشرية. إن حاضر الفرد، كحاضر المجتمع، يشهد تشابك كثير من الأوقات المتوالية. لقد أسقط مقولة “كينز” على العمل السياسي التي مفادها أن العوامل الاقتصادية لا تقرر تبعا لمعطيات مؤكدة ملموسة مادية، وإنما لتوقعات وترقبات، أي لاحتمالات.
إذا كان “برشت” يردد أن المرء لا يعرف سوى ما يحوله، فإن المؤلف يعاكسه بقوله: لا يحول المرء إلا ما يعرفه حق المعرفة. وأقل ما يلم به في البحث العقلاني نقاط التلاقي، في هذا الإطار يطرح إشكال العلاقة بين الممارسة النضالية والتحليل النظري. فالخصام متواطأ عليه قد تدفعنا التربية التجريبية على اختراق الجدران المشتركة بين الأحداث الجارية والفرضية. إن أسبابا متعددة تدفعنا إلى الخلاص من موضوعات القلق الكبيرة.
إن ملاحظة المجتمعات الحديثة لم تأذن بعد بمصادفة مجتمع بلا “أيديولوجية”. لا يشكل الوعي جوهر حياة النفسانية بأكثر مما تشكل المؤسسات والتمثيلات السياسية جوهر الحياة السياسية للجماعات. كما تبدو الأديان والايديولوجيات وكأنها في نهاية المطاف ممارسات تنظيمية “لا تمثيلية رمزية”. لأن جوهر تاريخ البشرية السياسي ليس اجتماعيا. لذلك فالتفكير مرتبط بالانثروبولوجية الثقافية. يضرب مثلا بالفن قائلا بأنه ليست الصعوبة في أن نفهم الفن الإغريقي والملحمة مرتبطين ببعض أشكال النمو الاجتماعي. بل الصعوبة في هذه: إنهما ما زالا يوفران لنا متعة فنية، ويشكلان في بعض الأحوال قاعدة قياسية، وهما في نظرنا نموذج لا يمكن بلوغه.
إن تحديد نظري للممكن وغير الممكن الصيغة النقدية العامة. وانتقد من قال “الجحيم هو السياسية”، والسياسية ليست هي كل شيء. وعرف مصطلح “نقد” بأنه ليس ارتيابا في تفاؤل أساسي ونهائي بأقل مما يعني الرغبة المؤكدة فيه. ويحدث أن يساعد تقدم المعرفة على رقي معرفتنا بعجزنا، كما أن علما أفضل بالظواهر السياسية لا يعدنا بالتمكن من السيطرة على ظواهر القدرة أو السلطة أو التجسيد، والواقع أن السؤال الحقيقي يتعلق بمعرفة ما إذاكان بالإمكان إعادة الشأن السياسي إلى السياسة، وإذا كان الجواب بالإيجاب فكيف؟
لا يمكن فصل بين العقل والعمل السياسي. وما لا يستطيع القول فيه ينبغي كتمانه كما قال “ويتنغشتاين”. إن للعقل السياسي أسبابه التي يجهلها العقل. فلا بد من تمهيد السبل المفضية إلى معرفة، وعليه فإن النقد السلبي، أو” الجدلي” يسبق النقد الإيجابي أو “التحليلي”. لكن إذا كان نقد الغباوة تمهيدا لابد منه، فإن ما يهم هو تعليله.
نستنبط من هذا المؤلف قضايا متعددة نوجزها في أن لكل انحراف عقلي سببه، ولا شيء يتم بدون علة. هذا ما يقوله الحس السليم، وعليه فإن “نقدا للعقل”، السياسي يجب أن يبدأ بنقد لمفهوم الأيديولوجية. في سلم العلوم تزداد عصبية الباحثين بازدياد درجات عدم اليقين لديهم، وليس من ايديولوجية حية إلا وهي مدمجة.تتضمن طبيعة الفكر أنه ليس قط عبدا لما يعتبره وإنما لما يهمله، وليست “فكرة” من الأفكار ناجعة بل لأنها مظنونة كذلك. إن محترف الأفكار يبقى أديبا. لأنه إذا كانت الصور قادرة على جعلنا نفكر، فإننا لا نفكر بالصور بل بالكلمات.
إذا كان الموقع السياسي المكان الطبيعي للإخفاق، فالإخفاق شغف محرك، لأنه معد للحلقة. إنه مساهم في إعادة بناء الذات. إن نقد العقل السياسي يحتاج إلى نظرية سياسية. إن الحقيقة الماسة بمصالح الناس والمصطدمة بكبريائهم استقبلت يوما بغير الرشق بالحجارة.
إن عدم الكمال يكشف النقاب إذن عن منطق العمل السياسي في الوقت الذي يكشف فيه عن لا معقوليته. لكن اللامعقول هنا لا يهدم المعنى، إنه يؤكده. هذا ما يتطلب التجديد المرتبط بالفعل. ففي مادة الوعود، يتجاوز الطلب الاجتماعي العرض التنبئي، وفي مادة خيبات الأمل، يتجاوز العرض السياسي الطلب، وربط السياسة بالثقافة هو السلطان الكائن المساعد على تفوق مبدأ الانتماء. ليس في الإمكان تصور فعالية سياسية لا تكون نتاج حيوية عرقية، ولكن شروط الحفاظ على هذه الحيوية تحمل ضربة قاضية على الفاعلية السياسية.
إن محاربة الفساد والتحلل مرتبطة بالزمان، وهو مقولة خارجة عن المادة الخام، ولكنها مكونة للكائن الحي. لأن العمل السياسي هو بطبيعته العمل الذي ردود الفعل لا يمكن ضبطها، وقبل كل شيء، لأن العامل نفسه لا يضبط نفسه. خلاصة الأمرأن فكرة “الممارسة السياسية” وهم لأنها تعتمد على تعميم النشاط التقني في حقل غير تقني. في التعامل مع الحزب أنشد أراغون 1960 ما يلي:
سلام عليك أيها الحزب يا أسرتي الجديدة
سلام عليك أيها الحزب يامن أصبحت من الآن أبي
إني لأدخل مسكنك حيث النور جميل
كصبيحة من صبيحات الأول من مايو
إن التاريخ السياسي قابل للتلخيص والبرمجة، لذلك لا بد من استحضار تعداد أمكنتنا المشتركة. مما يتطلب حسن إدراك مسلسل تاريخيا. قد تفقد البشرية الاجتماعية رسوخ القدم، وتتصنع عهودا ذهنيا كي لا تفقد ذاتها. لأن الاحواض الثقافية التي يتجاوزها التقدم تبقى لصيقة بالمخيلة. يبقى السجل الزمني لأشكال السيادة ليس قابلا للارتداد. تسعى كل الأبحاث إلى التوازن، وينطبق هذا على الزمان والمكان. بالجملة فالحضارة تستعلي على الثقافات بأنها ليست توكيدا للفروق بين المجموعات التاريخية ولا نفيا لها وإنما هي سيرورتها.