نظرات هادئة في آراء ومواقف الأستاذ عبداللطيف وهبي حول قضايا الحريات والمباح والحلال والحرام ومقاصد الشريعة(2)
قطعيات الشريعة وآحاد النصوص والكليات المستقراة من جزئياتها:
حاول الأستاذ وهبي في محاضرته بتطوان أن يعطي تفسيرا خاصا به لقطعيات الشريعة التي وردت في الخطاب الملكي لعيد العرش في يوليوز 2022 : ” وبصفتي أمير المؤمنين ، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان ، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله ، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية“. حيث رأى أن القطعية لا تكون في النصوص وإنما فيما استقصاه فقهاء الشريعة من كليات كبرى، كما زعم أنه ينبغي للعماء تجاوز القطعيات عندما تتهددنا “الفتن” ، ووعد بالرجوع بتفصيل أكثر لها في محاضرة أخرى له خلال شهر ماي.
فما حقيقة هذه الدعوى؟ وكيف يمكن تنزيلها فيما له علاقة بالتعديلات المرتقبة في مدونة الأسرة أو في القانون الجنائي المغربي؟
أ – قطعيات النصوص القرآنية :
قسم العلماء النصوص من حيث ثبوتها إلى قطعيات وظنيات، فجعلوا ضمن ما هو قطعي الثبوت القرآن والحديث المتواتر وعدوا أحاديث الأحاد ضمن ما هو ظني. كما قسموا النصوص من حيث الدلالة إلى ما هو قطعي وما هو ظني كذلك . فأما النصوص قطعية الدلالة فهي ما لا تحتمل إلا معنى واحدا، وأما ظنية الدلالة فهي ما احتملت ألفاظها أكثر من معنى؛ سواء كانت هذه النصوص قرآنا أو أحاديث نبوية.
ومن قطعيات القرآن من حيث الدلالة النصوص التي لها علاقة بالأسرة والتي تضمنت أعدادا محددة لا يمكن صرفها إلى غير ما وضعت له. وكونها قطعيات يعني أنه لا شك لا في ثبوتها وأنها من رب العالمين، وكذلك لا شك في دلالتها على ما اقتضته، ومن ثم فلا يجوز للمسلم تجاوزها أو إهمالها فهي حكم الله وقضاؤه الذي قال عنه سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } [الأحزاب: 36]
ومن الأمثلة على ذلك :
إباحة التعدد: قال الله تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]. فالآية قطعية في إباحة التعدد، فلا يمكن للسطلة التشريعية أن يقوم بمنع التعدد بإطلاق لأنها بذلك ستقع في تحريم ما أحله الله تعالى. ولذلك فإن العلماء من أمثال رشيد رضا والطاهر بن عاشور وعلال الفاسي، ثم العلماء الذين أشرفوا على وضع مدونة الأسرة انتبهوا لخطورة التحريم البات وأنه ينافي مقصد الشريعة الحكيم في إباحته عند الحاجة إليه وعند عدم خوف الجور وعدم العل. وقصارى ما استطاعوا فعله هو أنهم وضعوا عليه القيود والضوابط حماية للأسرة القائمة وللأسرة التي سيؤذن بإقامتها، وهو ما نعود له عند الحديث عن تقييد المباح من طرف ولي الأمر.
أنصبة بعض الورثة المفروضة بنسب مضبوطة: من النصوص القطعية أيضا والتي لا تحتمل تأويلا ولا تبديلا ما له علاقة بأنصبة الورثة الذين يرثون بالفرض. فالبنت عند انفرادها ترث النصف، والزوج يرث النصف من زوجته عند عدم وجود الولد والربع عند وجوده، أما الزوجة فترث الربع من زوجها عند عدم الولد والثمن عند وجوده. قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]. وقال أيضا: {لَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } [النساء: 12]. إنها فرائض فرضها الحق سبحانه بعلمه وحكمته، فلا يمكن تعديلها لأنها من قطعيات النصوص القرآنية، وإنما يمكن النظر في بعض حالات التعصيب، أو في إمكانية حل بعض الإشكالات المرتبطة بالتنزيل حفظا لاستقرار الأسرة.
حدود بعض الجرائم : ومن النصوص القطعية القرآنية ما له علاقة بحدود بعض الجرائم، والتي لا تحتمل إلا معنى واحدا صريحا. من مثل حد الزنا في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [النور: 2]. أو حد القذف دون بينة من الشهود في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 4]. إنها قطعيات قرآنية لا يمكن تعديلها ولا تجاوزها، وكل ما يمكن هو أن يبذل المشرع جهدا في وضع ضوابط تنزيلها كأن تدرأ الحدود بالشبهات، ويراعى التكريم الإلهي للإنسان فلا جريمة إلا بنص، والفرد بريء حتى تثبت إدانته، كما يمكن للحاكم ايقاف العمل بها بشكل مؤقت عند عند وجود الشروط اللازمة كما فعل عمر في عام المجاعة مع حد السرقة…
ب- القطعيات أو الكليات المستقراة من جزئيات النصوص:
وبجوار القطعيات القرآنية هناك قطعيات أخرى، قد تكون أقوى من قطعيات النصوص وهو ما أشار إليه الأستاذ وهبي في محاضرته، وهي لا تلغي قطعيات آحاد النصوص لكن تقويها. لقد حرص علماء المقاصد والأصول على استخراج كليات كبرى باستقراء معانيها من نصوص الشارع، وثبوتها أعلى درجة من حيث القطع مقارنة بقطعيات آحاد النصوص، إذ أنها لم تؤخذ من نص واحد لكنها استخرجت من استقراء تام لنصوص الشارع القرآنية والحديثية. ومن ثم فهي كليات تحرص الأمة على إلتزامها والعمل بها . ويدخل فيها الضروريات الخمس، وهي المصالح الكبرى المرعية في كل شرائع الأنبياء أي: حفظ الدين، وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال.
فإذا تأملنا كلية حفظ النسل مثلا فحفظها يتعلق بكل ما يعين على استمرار النسل الانساني، وعلى بقائه سليما معافى، وعلى تحليه بقيم الاستخلاف. ولأجل ذلك حرمت الشريعة الزنا وجعلته من أعظم الفواحش قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا } [الإسراء: 32]. ونوه القرآن الكريم بالحافظين لفروجهم حيث قال سبحانه: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 35].
إن تحريم الزنا، والتضييق على ممارسته من شأنه تحفيز الشباب على الزواج، وعلى بناء أسرة ينعم أفرادها بالدفء الأسري وبالرعاية الوالدية، ويحفظ المجتمع من شيوع الأمراض المتنقلة جنسيا والتي أعيى بعضُها العلماء ولم يجدوا لها تلقيحا ولا علاجا كالسيدا الذي حصد سنة 2021 قرابة 650000 شخص. كما أن العفة والامتناع عن الزنا يحمي من وجود حالات أبناء الزنا الذين يعانون وتعاني معهم أمهاتهم والمجتمع أيضا.
ومن ثم فالتشريع الجنائي ينبغي أن يكون منسجما مع حفظ هذه الكلية الشرعية، ومتناغما معها من حيث تضييق دائرة الفساد بدل فتحها وتيسيرها. وإذا كان ولابد من تعديل المواد المتعلقة بجريمة الفساد والخيانة الزوجية ( 490-496) بحيث توضع الضوابط الشرعية في ألا يؤاخذ الفرد بجريمة الفساد أو الخيانة الزوجية دون بينة فلا بأس من ذلك، لكن أن يصل الأمر إلى إلغاء مضمونها فهو مرفوض شرعا لأنه يفتح الباب على هدم الأسرة بمفهومها الشرعي والمنصوص عليها دستوريا.
وسنعود لهذه المسألة لاحقا عند الحديث عن ضوابط الحريات الفردية من خلال حديث الأستاذ وهبي.
الدكتور الحسين الموس باحث في أصول الفقه ومقاصد الشريعة