نشر الطمأنينة.. فريضة شرعية وضرورة حياتية – عصام الشعار
نشر الطمأنينة في أوقات القلق والخوف هو نهج الأنبياء والمرسلين، فهذا كليم الله موسى – عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم- عندما خرج بقومه مهاجرا من بطش فرعون وجنوده، وكان فرعون وجنده في إثرهم، وقبل أن تحتفل الأرض والسماء بآية من آيات الله العظمى في تمكين المؤمنين وإهلاك الظالمين، دار هذا الحوار بين كليم الله موسى ومن معه من المؤمنين، فعندما انتهى المسير بأهل الإيمان إلى شاطئ البحر، فإذا بركب المؤمنين يجدون أنفسهم محاصرين، فالبحر أمامهم، وجحافل الكفر والطغيان من خلفهم، وهنا تغلبهم الطبيعة البشرية فعلاهم الخوف، وظنوا بالله الظنونا، ولا ضير أن يعلو الخوف في مثل هذه اللحظات شريطة العودة إلى حظيرة الإيمان، فخوف أصحاب موسى كان خوفا فطريا، لا يقدح في كمال الإيمان والتسليم، ولا يستعلي على الخوف في مثل هذه اللحظات إلا القلوب التي ارتقت في مدارج الإيمان، وسلم اليقين. ففزع أصحاب موسى من هول ما رأوا، ولا يعلمون ما تخبؤه لهم يد اللطف والعناية، فما هي إلا لحظات يسيرة جدا وسيرون في التو واللحظة آية من آيات الله الباهرة، ولك أن تتخيل في مثل هذا الموقف ما في القلوب من هلع، وخوف، وترقب، وفزع، فقد بدأت النفوس تحدث نفسها بملاقاة الأهوال وصنوف التعذيب والتقتيل، ولكن في أوقات المحن والشدائد يتجلى دور أهل الإيمان واليقين، ولم يكن نبي الله موسى على علم مسبق بآية نجاته ومن معه من المؤمنين، ولكن على قدر الإيمان تكون سكينة النفوس، وطمأنينة القلوب، فما كان من موسى عليه السلام إلا أن أخذ يطمئن القوم، ويذكرهم بأن من خرجوا في سبيله لن يضيع عباده المؤمنين، وأخذ ينطق بلسان الواثق، والمبشر، والمطمئن للقلوب، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء : ٦١-٦٢].
أهل الإيمان، هم أولياء الله، وقلوبهم لا تعرف خوفا ولا حزنا، وإذا اعتراهم النقص البشري فسرعان ما تعود للقلوب سكينتها، وللنفوس طمأنينتها، فقلوبهم دوما في راحة وصفها لنا الحق سبحانه، فقال تعالى: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام : 48]، {فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف : 35]، {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس : 62].
وأولياء الله هم المؤمنون الصالحون المتقون، فكل من كان لله تقيا، كان لله وليا، وحفظ الله لأوليائه ليس معناه عصمتهم من الأذى والبلاء، بل على العكس من ذلك فأهل الله هم أكثر الناس ابتلاء، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد به بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة). أخرجه الإمام أحمد وغيره، وصححه الألباني.
إذن في الحياة لحظات لا يصمد لها الإنسان إلا إذا كان يأوي إلى جنب الله، ويلوذ بحماه، ومهما أوتي الإنسان من القوة والثبات والعدة والعتاد، فإن في الحياة لحظات تعصف بهذا كله، فلا يصمد لها إلا المطمئنون الواثقون في الله.
رسول الله يطمئن صاحبه في الغار:
وها هو خاتم الأنبياء والمرسلين يطمئن صاحبه في أشد اللحظات التي تبعث على الخوف والقلق، حيث لم يكن بينهما وبين الوقوع في أيدي الغدر والعدوان سوى أن ينظر أحدهم تحت قدميه!! وهذا ما جعل الصديق –وهو من هو- يفزع ويتملكه الخوف والقلق عندما سمع خفق أقدام المشركين، ليس خوفا على حياته، ولكن خوفا على صاحب الرسالة، وخوفا على مستقبل هذا الدين، وفي هذا الجو المفعم بالقلق والترقب، والحذر، والخوف إذا بالحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يبدد خوف صاحبه، ويسكن فؤاده ويقول له: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا”، فكانت النتيجة أن الله تعالى لم يخذل من تعلق به، ولاذ بحماه، وفوض الأمر إليه.
إن الإسلام يحب إشاعة الطمأنينة التامة فى أكناف المجتمع، بحيث ينال الإنسان -مسلما كان أو غير مسلم- نصيبا موفورا من طمأنينة الحياة واستقرارها، وليتضح لنا هذا المعنى سنعيش مع هذا الموقف الذي حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كان هناك رجل من أحبار اليهود اسمه زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ قد اقترض منه النبي – صلى الله عليه وسلم – قرضا كان قد احتاج إليه ليسد به خللا في شئون نفر من المؤلفة قلوبهم، فما كان من اليهودي إلا ذهب يطالب رسول الله بالدين قبل حلول موعد السداد فيقول زيد بن سعنة: “فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ قَمِيصِهِ وَرِدَائِهِ وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ غَلِيظٍ فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا تَقْضِيَنِي يَا مُحَمَّدُ حَقِّي فَوَاللَّهِ مَا عُلِمْتُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ سَيِّئَ الْقَضَاءِ مَطْلٌ، وَلَقَدْ كَانَ لِي بِمُخَالَطَتِكُمْ عِلْمٌ وَنَظَرْتُ إِلَى عُمَرَ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَدُورَانِ فِي وَجْهِهِ كَالْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ، ثُمَّ رَمَانِي بِبَصَرِهِ، فَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَتَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَسْمَعُ، وَتَصْنَعَ بِهِ مَا أَرَى؟!، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَوْلَا مَا أُحَاذِرُ قُوَّتَهُ لَضَرَبْتُ بِسَيْفِي رَأْسَكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى عُمَرَ فِي سُكُونٍ وَتُؤَدَةٍ وَتَبَسَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عُمَرُ أَنَا وَهُوَ كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا، أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الْأَدَاءِ، وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التِّبَاعَةِ، اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ فَاعْطِهِ حَقَّهُ، وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ» فذهب عمر لليهودي وفعل ما أمره به رسول الله، فقضى اليهودي دينه وأعطاه فوقه المزيد.
فَقال اليهودي: مَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ يَا عُمَرُ؟!، قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنْ أَزِيدَكَ مَكَانَ مَا روعتك).
إن ترويع يهودي آذى صاحب الرسالة بلسانه ويده، أمرٌ رفضه رسول الله، بل أمر عمر أن يعطيه فوق حقه عوضاً تَطِيبُ به نفسُه مقابل تروعيه.
إن المجتمع المسلم أهم ما يميزه هو الشعور بالطمأنينة، وعدم الخوف من القهر، أو الظلم، مجتمع يأمن فيه الإنسان على دينه، ونفسه، وعرضه، وكرامته، وماله، وهذا ليس توصيفا لواقع، ولكنه ما يجب أن نكون عليه.
نشر الطمأنينة فريضة شرعية
إن نشر الطمأنينة بين الناس في ديننا فريضة أمرنا بها رسول الله صلىى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه الشيخان عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- (يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا).
ومعنى (سَكِّنُوا): من التسكين ضد التحريك، والمراد هو نشر كل ما يبعث على الطمأنينة والسكينة بين الناس، وعدم ترويعهم، وتجنب ما يحمل النفوس على الحيرة والقلق، فضلا عن ترهيب الناس وتخويفهم!!
والمعنى: لا تروعوا خلق الله، ولا تدخلوا على نفوسهم، بالقول أو الفعل، ما يحملهم على القلق والخوف والفزع.
هذا الحديث وما اشتمل عليه من المعاني والنفحات لا يخفى على ذوي العقول والبصائر، ولكن من يطالع كتب السنة يدرك ما كان عليه هؤلاء الأئمة من غزارة العلم ودقة الفهم، وأنهم لم يكونوا أوعية للسنة المطهرة فحسب، فقد استوقفني هذا الفتح العجيب الذي تجلى الله تعالى به على الإمام مسلم –رحمه الله- في كتابه الصحيح، وقد تعجبت من دقة فهمه وغزارة علمه عند تخريجه لهذا الحديث الذي ذكرناه آنفا “وسكنوا ولا تنفروا” فقد أخرج الإمام مسلم هذا الحديث في كتاب “الجهاد والسير” وكنت أتوقع أن يسير الإمام مسلم على نهج الإمام البخاري ويخرج الحديث في كتاب الآداب، ولكن ما فعله الإمام مسلم فتح آفاقا أوسع وأرحب لفهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأني برسول يبعث بوصيته الخالدة ويقول: أنتم أمة التبشير والتيسير، وأمة السكنية والطمأنينة، حتى في أشد اللحظات التي تمر بها الأمة، حيث تقرع طبول الحرب، ويعلو نفير الجهاد، ففي هذا الجو المفعم بالقوة والحماسة، إياكم أن تغفلوا عن وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا”.. فيا أيها المجاهدون وأنتم في غمرة القتال وفي ذروة شدتكم على الأعداء إياكم أن ترهبوا الآمنين من النساء، والأطفال، والرهبان، والزرَّاع، والصُنَّاع، وكل من لم يشهر في وجوهكم سلاحا .. وأنتم يا من حيل بينكم وبين ركب المجاهدين يا من تخلفون المجاهدين في أهليهم، يوصيكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تسكنوا أهالي المجاهدين وذويهم وأن تبعثوا في قلوبهم السكنية والطمأنينة، فبشروهم بعودة المجاهدين سالمين منتصرين.
إن إدخال الفزع على الآمنين جريمة حتى وإن كان ذلك على سبيل المزاح فعن عبدِ الرحمن بنِ أبي ليلى قال: حدَّثنا أصحابُ محمدِ صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسيرونَ مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم، فنامَ رجُلٌ منهم، فانطلقَ بعضُهُم إلى حَبْلٍ معه فأخذه، ففزعَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “لا يَحِلُّ لمسلم أن يُرَوِّعَ مُسْلِماً” .
قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار: “قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يروع مسلما) فيه دليل على أنه لا يجوز ترويع المسلم، ولو بما صورته صورة المزح”. انتهى.
فيا أصحاب المنابر والأقلام يوصيكم رسول الله “سكنوا ولا تنفروا” انشروا الطاقة الإيجابية بين الناس، وانشروا ثقافة الطمأنينة بين الناس، وانثروا فيهم بذور الأمل، وافتحوا لهم أبواب الرحمة والرجاء، ولا تقنطوهم من رحمة الله، فما من يوم ينشق فجره إلا ويبدد ظلام الليل، ويحمل معه الضياء والنور.