نحن والعلماء بين المحبة والتجافي – الحبيب عكي
ذات مرة، وأنا أتحدث مع صاحبي عن دور العلماء والدعاة في حياتنا المعاصرة، والتي أصبحت وكأنها تمضي بجراحها وأفراحها بعيدة عن تأثير علم العلماء وحماس الدعاة وما يمكن أن يساهموا به من بث الوعي بيننا واستنهاض الهمم وغرس القيم وتعميم الخدمات وتقوية العزائم وتوجيه الشعوب والأمم واسعافها في ما تتخبط فيه من تراجع القيم وتدني الوازع الديني وهجوم الاستلاب وتفاقم أزمات التمدن الحضاري التي يقرر فيها الآخرون بالسلب أو الإيجاب، وينجحون غالبا في فرض مقرراتهم على شعوبنا بمجرد بعض المساعدات اللئيمة واختراق التقنيات المدمرة، قبل السياسات الرعونة والقرارات المعولمة التي يتهافت الجميع على تبنيها وتطبيقها طلبا ورغبة لا خوفا وإكراها؟
صدمني صاحبي وهو يقول أن أمر العلماء والدعاة عنده، فعلا أمر محير، فمرة يرى أن هناك علماء حكماء ودعاة محنكون فعلا، ومرة يتساءل أين هم القادة القدوة الفاعلون والجريؤون منهم؟ ومرة يرى أنهم في سياقات وجماعات ومنابر ومؤسسات، ومرة يرى أنهم خارجها وخاصة المؤثرة والمقررة منها في شؤون الناس العاملة على الإصلاح في مختلف المجالات وشتى الوسائل؟
ومرة يرى بعضهم يجتهد في الولوج للاشتغال والتواجد في وسائل العصر من المواقع والمنصات والتطبيقات وصفحات التواصل الاجتماعي، ومرة يجد فيها كل من هب ودب بعجره وبجره إلا هم، وإن حصل فبحضور أبهت من باهت، ناهيك عن مدى تواجدهم في الروابط الوطنية ككل القوى الاجتماعية الفاعلة، أوفي الاتحادات العالمية الحرة والمسؤولة وما يمكن أن يكون بينها من تنسيق مفيد وتعاون يقظ مواكب.
زاد صاحبي من صدمتي وهو يخبرني أنه خلال مطالعته المسترسلة وجد كتابا يعرض عليه وعلى القراء لائحة من عشرين عالم وداعية، ويقترح عليهم متابعة أحدهم أو بعضهم للاستنارة بعلمه والتحفيز بدعوته في أمر دينه ودنياه، ويبشرهم بأن الأجر في ذلك ثابت والفائدة مضمونة بإذن الله. لكن حسب رأيه، كل تلك اللائحة من العلماء والدعاة العشرون، وفيهم القدامى والجدد المشهورون والمغمورون، الكتاب والاجتماعيون والوعاظ والخطباء، ورغم تنوع مجالات اهتمامهم وتنوع بلدانهم واعتدال طرحهم وسداد رأيهم، إلا أنه بالنسبة إليه هو فقد وجد نفسه لا يميل إلى أي واحد منهم، وحتى من كان يستأنس بمتابعتهم في شبابه من قبل، أصبح اليوم لا يطيق القراءة لهم ولا حتى السماع إليهم، وكأنه وقع له تشبع موهوم أو نفور غير مفهوم، فأصبح يقود نفسه بنفسه وبرصيده القديم.
حالة صادمة فعلا، وأعتقد أنها ليست معزولة، بل منتشرة بشكل أو بآخر.. وبحجم أو بآخر، وعند فئات من الناس أو أخرى، مما يطرح وبإلحاح سؤال العلماء والدعاة المعاصرين والناس.. محبة أم جفاء؟ حاجة ضرورية أم فضل وزيادة؟ اهتمام وتفاعل أم إهمال ولا تواصل؟ هل فعلا، لم يعد للعلماء والدعاة أي دور في حياتنا، وليس لهم أي قيمة مضافة ولا خاصة على سياسييها ومثقفيها وفنانيها الذين قد لا يهمهم لا علم ولا عمل فبالأحرى العلم قبل العمل أو العمل الصالح؟ وإذا كان العكس، فالسؤال الأهم بعد ذلك سيصبح، ما هي الأسباب الموضوعية والذاتية التي أدت إلى مثل هذه الوضعية المرضية والخطيرة على أوضاع وشباب الأمة، دينها ودنياها. وكيف يمكن معالجتها وتمتين جسور التواصل والتفاعل بين النخب الرائدة من العلماء والدعاة وغيرهم من جماهير الأمة الغافلة المأسورة؟
عندما يقتنع بعض العلماء والدعاة على أن دورهم ينحصر في بعض المجالات الهامشية أو يفرض عليهم ذلك ويحشرون فيه وفي متاهاتة القبورية والطرقية والحيضية والمراحيضية.. باسم.. وباسم.. وباسم.. فكل ذلك لا يثير الناس في كثير شيء، بل يطلقونه ويهجرونه بقدر ما يطلق ويهجر لب حياتهم. وعندما تطغى على هؤلاء العلماء والدعاة كثرة الحيطة والحذر من الجرأة على قول الحق والصدع بالنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، أو محدودية فقه ذلك بسبب ضعف تأصيل وتجديد الخطاب ومحدودية التكوين سواء في العلوم الشرعية ذاتها أو في العلوم الشرعية دون غيرها من العلوم المادية والتقنية التي تهيمن على حياة الناس وتنتج عنها إشكالاتهم المستفحلة ومعضلاتهم المزمنة والمستعصية، فالناس مع من سيسعفهم فيها مهما كانت هويته وديانته، فقد علا فوقها نفعه وعطاؤه، وتقوى غيره لصاحبها وليس للناس.
أضف إلى ذلك، ما نشاهده اليوم من حملة مسعورة لتشويه العلماء والدعاة، وامتداد أطرافها وشراسة وسائلها وتنوعها وديمومتها، من تحطيم رمزيتهم عند الناس، من التنكيت والاستهجان على الفقهاء، من التضييق على الوعاظ والخطباء، من التوقيف في حق الجريئين أو حتى المجتهدين منهم، من الاتهام المجاني والمغرض بالتطرف والإرهاب، وكل هذا لا يسعف مهندسوه إلا في تنفير الناس من الدين الحي، لأغراض في نفس يعقوب ومنها ديكتاتورية القرار السياسي وانحراف التدبير الاجتماعي مما ينتج العديد من كوارثنا من البدع والخرافات من البطالة والهجرة، من الاحتكار وغلاء الأسعار، من الجرأة على مدونة الأسرة وعلى علمنتها، وعلى المقررات الدراسية وعلى استلابها، وعلى المنظومة الصحية وعلى استنزافها للمرضى، من العجز الفلاحي وما يعانيه من إجهاد مائي وتراجع في إنتاج اللحوم والتمور.. إلى غير ذلك مما تكتوي به حياة الناس ولا يكاد يتدخل فيه العلماء أو يؤثر فيه الدعاة إلا بالصمت والصمت المطبق.
وأيضا، واقع التفرقة والتشرذم والجمعاتية إلى حد الطائفية البغيضة، بين أبناء الدين الواحد والمذهب الواحد في البلد الواحد، فغالبا ما يحول فئات من العلماء والدعاة اختلافاتهم في الرأي والاجتهاد وفي الاختيارات والمنطلقات إلى خلافات حادة ومتصادمة بين النفوس والأشخاص والجماعات، فلا علاقة بينهم ولا التقائية في شيء، لا علاقات ولا مآلات، لا تعاون ولو على كلمة السواء، فلا يجتهد البعض منهم في الرد على غيره من الصف أو خارجه ومحاورته بمنطق وآداب الحوار، إلا بتضاده وتسفيهه إن لم يكن تخوينه وتكفيره. وكل هذا لا ينتج غير النفور وعدم الثقة بين الجميع ومن الجميع، وربما مثل هذا ما يجعل لائحة من عشرين عالما وداعية لا يحظى منها أحدهم عند صاحبنا بالقبول والمتابعة والتفاعل، بل حتى من كان بالأمس يجد حلاوة القراءة لهم وحيوية الاستماع إلى شريط لهم من مدة 3 ساعات بتسجيل رديء، أصبح اليوم لا يرى لهم ولو سطرا مكتوبا ولا يطيق أن يستمع لهم حتى لشريط من مدة 3 دقائق وبجودة عالية.