مواقع التواصل الاجتماعي وغياب الفاعل التربوي – الحبيب عكي
كثيرون هم الفاعلون التربويون بجد، وكثيرة هي أعمالهم القيمة وإنجازاتهم المبهرة، على مستويات متعددة في المدارس والجمعيات والملاعب والمخيمات..، وفي كثير من الفضاءات التربوية والترفيهية والتكوينية والتدريبية..، ورغم ذلك – مع الأسف – لا تزال معاناة الطفولة والشباب في توسع وامتداد بل واستفحال غريب وكأن لا شيء يعمل لصالحهم بلى حمايتهم وإنقاذهم. هل انتهى عهد الفاعل التربوي وهو الذي تخرج من كلياته الشعبية في الجمعيات والمخيمات العديد من رجالات الدولة الوطنيين؟ هل صدأت وسائله التربوية من “نشيد” و”لعبة”..، ولا تستطيع القولبة في صبحيات رقمية أثيرية يدخل منصاتها ويتحلق حول شاشاتها الملايين بدل مجرد العشرات من الأطفال فقط؟؟
أنظروا إلى مواقع التواصل الاجتماعي مثلا، كم تصدمنا – ورغما عنا وعن أعيننا التي لم تبحث عن ذلك ولم تقصده – كم تصدمنا مئات وآلاف من فيديوهات الجرائم الأخلاقية والتصرفات اللا تربوية التي ترتكب في حق الطفولة والشباب دون رقيب ولا حسيب:
1- فهذا أب يعلم ابنه الصغير كيف يدخن الشيشة؟
2- وهذا آخر يعلم بريئته كيف تتذوق الخمرة وتعاقرها معه؟
3- وهذا يتندر على كل ما هو ديني من لحية وحجاب وفقيه ومسجد وصلاة..؟
4- ومراهقات يسترزقن بعرض أجسادهن عبر “اليوتوب” و”التيكتوك” وصفحات “الفايسبوك” و”الأنستغرام”..، وبألقاب بطولية من درجة “قائدة” و”كابرانة” ودرجة “مهند” و “مخنث”.
5- التحرش الجنسي والاغتصاب والعنف والتطرف وفظاعة المخدرات و”الكريساج” ووقاحة التعاطي للدعارة..
6- هذا بالإضافة إلى حملات متتالية بغرض هدم القيم الأخلاقية تحت شعارات شهوانية براقة من قبيل “جسدي حريتي” و”علاقاتي رضائية أو مثلية ما دخلكم”، يغذيها وهم الغرور بحوزة آلاف المشاهدات وتسجيل ملايين الإعجابات والتربع على عرش “Tendance” .
والخطير في الأمر، توهم هؤلاء المراهقين الصغار والعابثين الكبار، أنهم أحرار.. وأبطال عارفون ..مبدعون.. ماهرون.. مؤثرون.. مشهورون.. بل أذكياء يكسبون من المال السائب والمغرض من “يوتوب” و”تيكتوك” ما لا يكسبه حتى الموظفون الأشقياء في وظائفهم المتجاوزة، والتي طالما طحنتهم وأحرقت عمرهم دون طائل، والنتيجة – على كل حال – أخلاق اجتماعية جديدة فاسدة ومفسدة، تهب رائحتها النتنة على أوساطنا الأسرية والمدرسية بدل أن يكون العكس، ويتسكع انحرافها في شوارعنا ب”تشمكيرها” وفي ملاعبنا ب”شغبها” المدمر للملك العمومي والمشترك من الفضاءات، بل وتصب مياهها الآسنة في مياه البحر الدافئة، وأمواجها العكرة طالما لوثت مواسم الصيف والشواطىء.
لا يمكن ترك الحبل على الغارب هكذا، والانحراف الرقمي والالكتروني والافتراضي كل يوم ينخر الطفولة والشباب، ويسرق منهم كل أوقاتهم الثمينة، يشوش عليهم الاهتمامات ويلهيهم عن أداء الواجبات، يحرمهم من التركيز والتحصيل الدراسي، يخجلهم في عالم الواقع بقدر ما يجرؤهم في العالم الافتراضي، ينفرهم من الاجتماعات الأسرية والزيارات العائلية، يختلي بهم في مخادعهم ويرافقهم في مراتعهم، إلى أن يفسد عليهم قيمهم الأخلاقية وراحتهم النفسية..، وكل هذا، تحت مسمى الترفيه وما هو بترفيه ولكنه غزو وطوفان برمجة وإدمان وتركيع، فما العمل:
1- لابد من وعي الآباء وتحمل مسؤوليتهم اتجاه أبنائهم ف(إن الله سائل كل راع ما استرعاه حفظ أم ضيع)؟
2- لابد من عي الشباب بخطورة ما يضيعونه من أعمارهم في ما يضرهم ولا ينفعهم(..ويسأل عمره فيما أفناه)
3- ضرورة يقظة الفاعلين التربويين، وإدراكهم أن ما ألفوه من فضاء الجمعيات والمخيمات ودور الشباب والمراكز الثقافية..، قد تحول جزء كبير منها إلى العالم الرقمي والافتراضي وصفحات التواصل الاجتماعي، ومن ثمة ضرورة رصدهم ومواكبتهم لما يبث عبرها من السموم والترافع ضدها كتلك الكوارث التي سبقت الإشارة إليها أعلاه، بالموازاة مع تسجيل حضورهم الدائم وإبداعهم التربوي والتكويني وتنشيطهم الترفيهي المتميز والهادف في هذه العوالم.
4- سن قوانين رقمية وضرورة تطبيقها، ليس حجرا على الحريات الفردية والجماعية للأفراد، ولكن، حماية لنشئنا وعدة مستقبلنا من كل المحتويات الرقمية الهدامة والتي تضر به فكريا وذوقيا..نفسيا وأخلاقيا، لأن النشء لا يمكن بناؤه بالإثارة والفضيحة وعموم الرذيلة، لذا تصبح محاربتها واجب الوقت لمختلف الفاعلين وعلى رأسهم التربويين والمسؤولين، و”ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”؟.
5- دعم حريات الإبداع وتوجيهها نحو المجالات المفيدة والمحتوى المحترم والبناء، وهنا لابد من استدعاء البرامج التربوية والتكوينية للمدارس وجمعيات المجتمع المدني في مواد الإعلاميات والتكنولوجيا وجهود تملكها والتضلع فيها، وما حققه شباب الدول الراقية فيها من ثورة في صناعة “الروبوتات” و الهواتف الذكية والحواسيب واللوحات والتطبيقات والبرمجيات والألعاب..، التي ندمنها نحن ولا نفقه من ذواكرها و”بيوصاتها” و”راماتها” و”روماتها” شيئا، لا أقول مما قل أو كثر ولكن مما يسعفنا في نهضة وطنية رقمية قيمية حتمية و مأمولة.
وهكذا، يظل سؤال العالم الرقمي والعالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي مطروحا على الجميع، خاصة مع جائحة “كورونا” وما بعدها، حيث أصبحت هذه العوالم ملاذ الصغار والكبار وتحديا حقيقيا في حياتهم وكل مناحيها وأغراضها، لذا فهي تمنح نفسها شرف كونها ستصبح سيدة الجميع في المستقبل وستحتكر كل الأغراض البشرية في كل الدنيا، أراد من أراد وكره من كره، من هنا يطرح السؤال: ماذا نفعل نحن في هذه العوالم الرقمية وبها، أو على الأصح ماذا ينبغي أن يفعل فيها أطفالنا وشبابنا؟، كيف ولماذا؟، الجانب التقني والمهاري في إطار الجواب مهم جدا كحامل تكويني، من هنا ضرورة الأستاذ التقني المتخصص كخبير معالج، ولكن لا يقل عنه أهمية وضرورة وجود ومواكبة وتسجيل حضور وإبداع مفيد وشيق، الفاعل التربوي، حامل القيم الأخلاقية وحارس هوية الأمة وذاكرة الأجيال وبوصلتها، عنها ينافح وبها ينفتح ويتواصل بلا حدود، فهل سيلج فاعلنا التربوي هذه العوالم الرقمية الأخاذة أم سيستمر في الغفلة والضبابية والغياب، وهو من أسباب ضياع شباب الوطن والأمة وطفولتها.
******
ملحوظة: مقالات رأي المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الهيئة الناشرة