من مقاصد شهر الرحمة – عبد الرحمان الإدريسي
الحمد لله مقلب الليل والنهار، فاتح أبواب الرحمات لعباده الأبرار، نحمده حمدا كثيرا على نعمه الكثيرة وآلائه الوفيرة. والصلاة والسلام على سيد الأبرار، أفضلِ من صلى لربه وصام وعلى آله الأبرار وأصحابه الأطهار، وبعد
فإن الصوم من أفضل العبادات التي رغب الله تعالى عباده في إتيانها والقيام بحقها لما تعلق بها من مصالح وفوائد تنبو عن العد والحصر، ولما يغنمه الصائمون من أجر عظيم وجزاء كريم. وإنه لحري بالمؤمنين أن يتبينوا بعضا من تلك المصالح عسى أن ينشطوا في شهر الصيام ويبادروا إلى اغتنام أيامه المعدودات.
- في معنى الصوم وحُكمه
الصوم في اللغة مطلقُ الإمساكِ والكف والترك؛ قال النابغة الذبياني:
خيلٌ صيامٌ وخيل غيرُ صائمةٍ تحت العجاج وخيل تعْلُكُ اللُّجُما
وُصفت الخيل بالصيام لإمساكها إما عن المشي أو عن الأكل أو عنهما معا، أو عن كل ما يُمسك عنه. فكل من أمسك عن شيء وكف عنه وترك إتيانه قيل له في اللغة صائما، قال ابن فارس رحمه الله في المقاييس: “صوم الصاد والواو والميم أصل يدل على إمساك وركود في مكان. من ذلك صوم الصائم، هو إمساكه عن مطعمه ومشربه وسائر ما منعه. ويكون الإمساك عن الكلام صوما، قالوا في قوله تعالى: {إني نذرت للرحمن صوما} ، إنه الإمساك عن الكلام والصمت”.
وفي الاصطلاح عرفه الفقهاء رحمهم الله بتعريفات متقاربة في المبنى متحدة في المعنى؛ قال الشيخ محمد بن أحمد مَيّارة رحمه الله: ” وفي الشرع إمساك عن أشياء مخصوصة في أزمنة معلومة على وجوه مخصوصة، وهو إمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع اقتران النية…”.
وصوم رمضان واجب بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، ففي الكتاب أمره به الله تعالى في قوله: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم }؛ قال القاضي ابن العربي في الأحكام: “قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَى كُتِبَ فُرِضَ وَأُلْزِمَ”. وفي السنة دلت على وجوبه آثار كثيرة، منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتِ»، وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : «أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا». وقد جاء الأمر بصوم رمضان أيضا في قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته».
وقد أجمع سلف الأمة وخلفها على وجوب صوم رمضان على البالغ العاقل المقيم الصحيح القادر وعلى المرأة إلا أن تكون حائضا أو نفساء.
أما شهر رمضان فمأخوذ من الرَّمَض وهو شدة الحرِّ؛ قال الخليل الفراهيدي في العين: “الرمض: حر الحجارة من شدة حر الشمس، والاسم الرمضاء. وأرض رمضة بالحجارة. ورمض الانسان رمْضا اذا مشى على الرمضاء. والرَّمْضُ: حرقة القيظ”، والرمض كذلك مطر ينزل قبل الخريف قاله الخليل وغيره. وإنما سمي رمضان لأنه وافق زمانه وقت حر حين وضعت العرب له اسمه؛ قال ابن فارس في المقاييس: “وذكر قوم أن رمضان اشتقاقه من شدة الحر، لأنهم لما نقلوا اسم الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة، فوافق رمضان أيام رمض الحر”. وعلى القول بأن الرَّمْض مطر قبل الخريف فإن مناسبته لشهر الصيام واقعة من جهة أن المطر النازل مُنَقٍّ للأرض مما علق بها هشيم الزرع ومن سائر ما يعلق بها من الشوائب والأدران لتتهيأ لتلقي الحَبِّ، وليحسن نباتها وتزكو ثمارها. وكذلك يفعل شهر رمضان بالصائمين ينقي صحائفهم مما علق بها من السيئات ويطهر قلوبهم من شوائب الأهواء ويزكيهم.
- في معنى المقاصد
المقاصد جمع مقصَد مصدر ميمي من قصد يقصد قصدا، أو جمع مقصِد مكان القصد. والقصد في لسان العرب الاستقامة والتوسط بين طرفين، والتوجه إلى شيء وإرادته، وهذ المعنى الأخير هو المراد من معنى المقاصد في الاصطلاح وعليه بنى العلماء تعريفهم لها.
والمقصد في الاصطلاح هو المعنى الذي يتوجه إليه الشارع الحكيم ويريده حين وضع الحُكم، وقيل المقاصد هي المعاني والحِكم التي يراعيها الشارع في وضع الأحكام لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد تفضلا وإنعاما. وتسمى الحِكم والأسرار والغايات والأغراض التي تُرامُ ويراد التوصل إليها بالدخول في الأعمال المشروعة، وهي عين العلل التي تناط بها الأحكام عند الإمام الشاطبي. وعامة العلماء على أن المقاصد إنما هي حِكَمٌ باعثة على الامتثال وليست عللا لأنها لا تنضبط، ولكنهم على اتفاق بأن سائر أحكام الله تعالى وأفعاله وضعت لحِكم جليلة علمها من علمها وجهلها من جهلها، وأن مدار تلك المقاصد على جلب المصالح ودرء المفاسد؛ قال العلامة سيدي علي بن عبد الواحد الأنصاري السجلماسي في “اليواقيت الثمينة”:
الله جـــــل شــــرع الأحــــكاما لحــــــكمة جلـــــيلة عـــــــلى مــــــــــــــــــا
يشــــــاء فـــــــاحذر أن تظــــــنا حُكمه أو فــــعل ربك خــــلا عن حِكمـــــــــــه
هــــذا وقــــــد علــــــم باستقــــــراء فعـــــــــــــال رب الأرض والسمــــــــــاء
جلــــــب المصـــــالح ودرء المفســــــده وذا الـــــــذي لخلـــــــقه قد عَــــــــــــــوَّدَه
وأحكام الشرع تتعلق بعبادات محضة كالصلاة والصيام والحج، وهذه تدرك حِكمها على الجملة، وقد تدرك بعض مقاصدها على شيء من التفصيل يسير.وتتعلق الأحكام أيضا بعادات الناس في مطعمهم وملبسهم، ومعاملاتهم وتصرفاتهم فيما يتبادلونه من حقوق كالتبايع والتناكح والتقاضي وما شاكلها. وما كان من قبيل العادات أو العبادات فإن أحكامه تناط بالعلل والمقاصد وتدور معها وجودا وعدما. فالأصل فيها الإباحة ما أفضت إلى ما نيط بها من مقاصد وما علقت عليه من حِكم ومصالح، قال ابن تيمية رحمه الله في فتاويه الكبرى: ” البيع والهبة والإجارة وغيرها، هي من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم، كالأكل، والشرب، واللباس، والشريعة جاءت في العادات بالآداب الحسنة، فحرمت منها ما فيه فساد، وأوجبت منها ما لا بد منه، وكرهت ما لا ينبغي، واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها، وإذا كان كذلك، فالناس يتبايعون ويتاجرون كيف شاءوا ما لم تحرمه الشريعة، كما يأكلون ويشربون كيف شاءوا ما لم تحرمه الشريعة، وإن كان بعض ذلك قد يستحب أو يكون مكروها، ولم تَحُدَّ الشريعة في ذلك حدا فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي”.
- من مقاصد صيامِ رمضان وقيامِه
لقد فرض الله تعالى على عباده صوم نهار رمضان وسن لهم نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم قيام ليله. ولدى تتبع واستقراء ما جاء من آيات وآثار صحيحة في الصيام والقيام، نجد أن ذلك شرع لجملة حِكم ومقاصد، نذكر منها:
3-1- تحقيق التقوى ولزوم الورع عن المحظورات
ذلك أن رمضان زمان للتقوى، والتقوى أعظم مقصد شُرِع الصيام لأجله حيث؛ وقع التنصيص عليه صراحة في التنزيل الحكيم في قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون }. والتقوى إنما هي ترك ما حرم الله تعالى والاجتهاد في إتيان ما أمر. ولأجل أن يتدرب الناس على تقوى ربهم في رمضان فقد حيل بينهم وبين ما تشتهيه نفوسهم من طيبات المباحات من مطعومات ومشروبات وسائر ما يأتون من شهوات البطن والفرج. وليس يخفى بأن تارك المباح أجدر بأن يترك المكروهات والمحظورات من باب أولى، وعلى هذا يفهم قول سيد الصائمين صلى الله عليه وسلم : «والصوم جُنّة-أي وقاية- فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يصخب ولا يفسق… ».
وإنما أنيط الصيام بالتقوى لأنها وصية الله تعالى للأولين والآخرين، ولأنها سببُ كل فلاح وبابُ كل فضل يصيب العبد في دنياه وأخراه لقول الله تعالى:{ ولقد وصينا الذين اوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}،ولقوله تعالى:{ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب }،ولقوله أيضا:{ ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا }، ولِوَعْدِه الكريم بمعية أهل الإحسان من المتقين في قوله:{ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون }
ووجه تعليق الصيام على التقوى أن الله تعالى خلق عباده وجبلهم على إتيان ما تشتهيه نفوسهم وزين لهم من ذلك ضروبا،{ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث }،وإنما أباح لهم ذلك حفظا لمصالحهم الضرورية وما يكملها من الحاجيات والتحسينيات. ثم إنه سبحانه رتب على عباده حقوقا في هذه المباحات وأمرهم بالاجتهاد في أدائها لمستحقيها. وحيث إن الإنسان خُلِق ضعيفا ما يلبث ينسى الحق الذي عليه فإن الله تعالى أمره بالصيام فمنعه من بعض المباح ليتدرب على ترك الحرام وأداء الحق الذي عليه فيما أبيح له؛ وكأنما قيل له إنما منعناك من هذا لئلا تأتي ذاك، وعلى هذا يتخرج قوله صلى الله عليه وسلم : «والصوم جنة» أي وقاية تَحْجُزُ عن صاحبها السوء والشر. وشرط حصول التقوى للصائم أن يعزم ويصمم على الدخول في هذه العبادة على نية الاحتراز والتجافي عن كل سوء، ولأجل هذا اشترط جمهور الفقهاء رحمهم الله لصحة الصوم أن يُبَيِّتَ الصائم النية من الليل لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا صيام لمن لم يبيت النية من الليل». وإنما يكمل ظَفَرُ العبد الصائم بمقام التقوى متى بالغ في الاحتراز عن كل ما يشين انقطاعه لربه، فلا يقرب شيئا من شأنه أن يخرم صومه كذوق الطعام أو المبالغة في المضمضة أو مجرد إدمان النظر إلى زوجةٍ على مذهب مالك رحمه الله الذي استعمل أصل سد الذرائع فقال بمنع الصائم من كل ما يباعده عن منزلة التقوى السنية. وليس يكمل صيام عبد ما لم يجعل بينه وبين ما يغضب ربه حجابا؛ فلا يقرب من المنكر شيئا ولا يأتي من السوء صغيرا أو كبيرا، فيصوم لسانه عن اللغو والرفث وتصوم عيناه عن النظر إلى ما لا يحل، وتصوم أذناه عن سماع منكر القول، ويصوم قلبه عن السياحة في أودية الباطل، وجماع الأمر أن يترك كل مذموم مقبوح بأن يجعل بينه وبين الحرام سياجا من الكف عن المكروه وكثير من المباح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به، حذرا لما به البأس».
ومما يعاب على بعض الناس في رمضان أنهم يبالغون في الإمساك عن المفطرات فلا يقربون منها شيئا، ولكنهم مع ذلك قد لا يبالون بالوقوع في أعراض الناس، وربما استغرق أحدهم في مشاهدة ما يخدش الحياء أو سماع ما لا يليق، وإنما أوتي هؤلاء من قبل الفهم؛ حيث تعلقوا بوجه الصيام الظاهر، ولم ينتبهوا إلى حقيقته الباطنة، ففاتهم التحقق بمقام التقوى الذي شرع لأجله الصيام، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»
3-2-رمضان موسم التبتل والانقطاع لذكر الله تعالى
ومقصد التبتل مأخوذ من قوله تعالى لمريم البتول: { فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا }، وقد ذهب بعض المفسرين رحمهم الله إلى أن صوم من قبلنا من الأمم ربما كان مقترنا بالإمساك عن تكليم الناس، وأن هذا الوصف نُسخ في شريعتنا، وذهب آخرون إلى أن ذلك كان خاصا بمريم عليها السلام في تلك الواقعة التي ألَمَّتْ بها؛ فأمرها الله تعالى بالامتناع عن تكليم الناس حسما لمحاجتهم فيما يرمونها به من تهمة في العرض مما هي منه براء. ومهما يكن من أمر الإمساك عن تكليم الناس فإن حِكمته التي هي التبتل لله والانقطاع لعبادته باقية لم تنسخ في شريعتنا، حيث علم من موارد عدة أن العباد مأمورون بالكف عن كل ما يقطع خلوص توجههم إلى باريهم، كما صح الخبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»، والزور اسم جامع لكل شر وسوء، والحديث صريح في المنع من قربانه قولا أو عملا، وإنما يكمل صوم العبد بالتجافي عن كل سوء مهما كان جنسه أو نوعه.
ومعلوم أن جانب الترك يقابله جانب الفعل لئلا يصير الترك معدوم الفائدة لما ورد عن الأصوليين رحمهم الله من أن النهي عن شيء أمر بجميع أضداده على اختلاف بينهم في تقرير هذه القاعدة. فمتى امتنع العباد عن تناول المباحات، وتركوا الدخول فيما يخرم صومهم من اللغو والهذر وسائر المفسدات، وجب عليهم الإقبال على ما يقابل ذلك في جانب الأفعال حتى يكون لإمساكهم معنى وقصدا. وإنما يقابِل الكفَّ عن المباحات الإقبالُ على رب البريات والتبتل إليه بصنوف العبادات والقربات { وتبتل إليه تبتيلا }، وإنما التبتل تمام الانقطاع لعبادة الله تعالى، ولا شك أن شرط كمال وصلاح التبتل أن يكون جاريا على وفق قصد الشرع من سماحة ويسر لئلا يدخل شيء من الترهب المنهي عنه؛ وفي الحديث: «بعثت بالحنيفية السمحة». فلأجل ألا يُفْهَم الانقطاع لذكر الله تعالى على ما يخالف أصل اليسر والسماحة أُردفت آيات الصيام بقول ربنا الرحيم: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }، ومن يسر ديننا الحنيف أنه لم يمنعنا من تكليم الناس حين صومنا ولا من الضرب في الأرض والسعي في مصالح معاشنا. بل لقد عُلم تحذيرنا أيها الأمة من الغلو في ديننا ومُنعنا من التزام ما يُرهقنا ويكون سببا في انقطاعنا وفتورنا عن طاعة ربنا؛ روي أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نذر لله أن يصوم ويقوم في الشمس ولا يستظل ولا يكلم الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مُروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليُتِمَّ صومه»، فلا يُتَبَتَّلُ إلى الله تعالى إلى بما شرع وبما كان جاريا على وفق الفطرة وقواعد الدين القيم.
وحاصل القول أن العبد متى تبتل إلى ربه وأخبت إليه بصومه صار من أهل الصدق الذين أثنى عليهم ربنا الكريم بقوله:{ والذي جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين}، فعلى قدر إحسان العبد في تبتله وتقربه إلى ربه ترفع درجته وترسخ صديقيته، وليس شيء أجلب لهذا من الصيام بما هو انقطاع وكف عن الشهوات وتبتل وإقبال على رب البريات.
3-3-رمضان شهر تمام الوصل بالله تعالى
من أحب شيئا عكف عليه بقلبه وسائر جوارحه، وحرص على تمام الفراغ له لا يصرفه عنه شيء. فبنو إسرائيل لما أحبوا الذهب عكفوا على العجل الذي اتُّخِذ من حُلِّي نساء قوم فرعون { واتخذ قوم موسى من حليهم عجلا جسدا له خوار }. ولما أحب رسولنا صلى الله عليه وسلم ربه تجافى عن الدنيا فلم يحب منها إلا أَزْنَأَها أي أضيقها، وبه اقتدت صحابته من السابقين الأولين الذين أعرضوا عن الدنيا فلم ينالوا منها سوى ما يتبلغون به حرصا على تمام الوصل بالله تعالى ونبذا لكل ما يقطعه، وذلك مقام لم يبلغه عبد قط إلا حرص على المداومة عليه والاجتهاد في ملازمته. ولأجل أن يضرب عمومُ المؤمنين منه بسهم رُتِّبَتْ لهم أعمال مدارها على الانقطاع لله تعالى وتمام الاتصال به من صلاة وذكر لله. والصيام خادم لذلك على أتم وجه وأحسنه بما هو تفريغ للمَحَلِّ من كل الشواغل، وتهيئة للقلب لتلقي كلمات الله تعالى إن هو فُرِّغَ وأخرجت منه الأغيار وأزيحت عنه الأكدار، فما الصيام إلا إعداد للمَحَلِّ و تفريغ له من الشواغل، حتى إذا كان من الليل وآنس العبد من نفسه صفاء وتهيأت شغاف قلبه لسماع ما يوحى نصب رجليه بمحاريب الزُّلْفى، فما أسرع ما يصل إلى الأعتاب رَضِيّاً مرضيا، وفي الصباح يُحْمَدُ السُّرى. فما شرع الصيام إلا للقرآن، وما تلي القرآن على وجه أكمل من القيام به بين يدي الرحمان { ومن الليل فتهجد به نافية لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا }. فلأجل أن ينال الصائمون حظهم من هذا النوال قرن بين الصيام والقرآن في قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه }، وفي قول سيد الصائمين صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه».
3-4- رمضان شهر البذل والجود
جاء في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقى جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن “، قال: ” فَلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة “. لقد كان جودُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان يبلغ النهاية التي لا ترام، وإنما مَرَدُّ ذلك إلى تلاوة القرآن وتدارسه كما أومأ إلى ذلك ابن عباس رضي الله عنهما.
وليس عجبا أن يكون لكلام ربنا تعالى جَدُّهُ ذلك الأثر العظيم، فإنه إنما أُنزل للدلالة على الله تعالى والهداية إليه، ومتى وجد العبد مولاه ذا الجلال والجمال مَحَضَّ له المحبةَ وأخلص له القصد واسترخص كل غال في جنبه سبحانه، فَلَلْقرآنُ أَقْمَنُ بأن يشد أوصال القلب بباريه وينفي عنه موانع الإخباتِ له { ولو أن قرآنا سُيّرت به الجبالُ أو قُطِّعت به الأرض أو كُلِّم به الموتى بل لله الأمر جميعا }؛ فحري بمن خالطت شغافَ قلبه حقائق القرآن ذات الحسنِ الكامل والبهاءِ التام أن تتقطع كل الأوصال التي تشده إلى الأرض، وأن يُخْرِج ما في يده عسى تَخْلُص له محبةُ سيده المتعالي ذي الطول والإنعام.
وحيث إن رمضان شهر الصبر على ترك المباحات، فإن ما يجده المؤمن من لأواء الجوع والعطش أدعى لوقوع الشفقة بقلبه على كل ذي فاقة محتاج. ومن وجوه البذل أن يبادر الصائم إلى إخوانه الفقراء فيجعل لهم نصيبا من طعام فِطرِه لتعم الفرحة كل المؤمنين و «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ» كما أخبر بذلك سيد الأبرار صلى الله عليه وسلم الذي رغبنا في إشراك إخواننا في فِطرنا فقال: «من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء»، ولما قالوا: “ليس كلنا نجد ما يفطر الصائم”، قال صلى الله عليه وسلم : « يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على تمرة، أو شربة ماء، أو مذقة لبن»، فإنما تُراد المواساة والتراحم وأن يُسْتخرَج من النفس شحُّها،{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون }.
إن الله تعالى يُضاعف أجور المُنفقين في سائر الأيام ويعطي على اللقمة والدرهم أجرا كبيرا، حتى إذا كان رمضان زاد من الجزاء إكراما لموسم الأنوار والبركات؛ { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون }، وفي الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بِعَدْلِ تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يُرَبِّيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل». فاللهم وفقنا للإكثار من الانفاق ابتغاء وجهك الكريم وتفضل علينا بعظيم الأجر مَنّاً منك وتكرما.
3-5- والشكر لله تعالى خاتمة المقاصد
لقد ختم الله تعالى آيات الصيام بقوله الكريم: { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}، والآية صريحة في تعليل فرضِ الصيامِ بشكر الله تعالى الذي أنعم على عباده برمضان موسما للتبتل والإحسان. فرمضان نعمة عظيمة ومنة جسيمة كلما تَمَّ وفرغنا منه طُوِّقت أعناقُنا بواجب الشكر للمنعم سبحانه { اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور }، وإنما الشكر دوامٌ على ما وُفِّقْنا إليه من أعمال واستمرار على العهد الذي زادته أيام رمضان تَوَثُّقا؛{ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد }، فالبذارَ البذارَ يا { ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا }، فلتغتنموا سويعات العمر شاكرين لله على ما تفضل به عليكم من مواسم الفضل والخيرات. ألا فلتزموا عهدَ الطاعة والتبتل لله، { وإن تشكروا يَرْضَهُ لكم }، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال وجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.