من قال علمت فقد جهل – عبد الواحد رزاقي

من سنن الله في الخلق أن يكون الفرد ماهرا في مجال وناقصا في مجال أو مجالات أخرى، قويا في فن من الفنون ضعيفا في أخرى. وقد يجمع فرد من الأفراد بين مهارات عدة لكن أن يستوعبها كلها ويتفوق فيها فذلك المحال بعينه.
وليس مطلوبا في ابن آدم أن يدرك من الكمال جزءه أو بعضه فالكمال لله وحده هو المتصف من غير شريك بصفات الكمال والجمال.
وقد يغتر الكافر بقوته أو سطوته أو ماله أو جاهه أو علمه، فيجحد النعم ويعتقد أن قوته هي التي أهلته كي يحتل ذلك المقام أو يحوز تلك الرتبة.
والنماذج البشرية في هذا المضمار كثيرة نذكر منها على سبيل المثال من فئة القبائل قبيلة عاد وثمود، ومن فئة الأفراد نمرود بن كنعان الذي عاصره سيدنا إبراهيم(ع)، وفرعون وقارون الذين عاصرهما سيدنا موسى(ع). هذا الطغيان وهذا الجحود وارد جدا لدى الكفار الذين لا يعرفون قدر خالقهم.
أما وأن يصدر العجب والغرور من بعض المقربين من الله تعالى وهم من هم في معرفة ربهم فهنا وجه الاستغراب.
جاء في رواية البخاري في صحيحه حيث أخرج عن أبيّ بن كعب -رضي الله عنه-: (أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يقولُ: إنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا في بَنِي إسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أيُّ النَّاسِ أعْلَمُ، فَقالَ: أنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عليه إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ، فأوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ إنَّ لي عَبْدًا بمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هو أعْلَمُ مِنْكَ، قالَ مُوسَى: يا رَبِّ فَكيفَ لي به، قالَ: تَأْخُذُ معكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ في مِكْتَلٍ، فَحَيْثُما فقَدْتَ الحُوتَ فَهُوَ).
ومما يستفاد من الحديث أن ضمير الأنا ممقوت في الشرع وفي الطبع وفي الجواب تزكية للنفس وادعاء متوهم لا يقوم عليه دليل.
قد يقول قائل إن السؤال يتحدث عن أعلم الناس وليس: من هو العالم حقا وبإطلاق؟ لكن تأدبا مع الله تعالى كان من الأصوب جواب السائل ب: الله اعلم.
الحديث بنعمة الله مطلوب في الشرع فكون سيدنا موسى كليما لله اختاره الله نبيا ورسولا:”واصطنعتك لنفسي”1 استدعاء لواجب الشكر واستحضار لمقام الحمد.
عتاب الباري جل وعلا لكليمه كان بمثابة دعوة له لاصطحاب عبد من عباد الله ليس نبيا ولا رسولا ولا كليما (الخضر ع). “فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما”.2
أخبر الخضر موسى -عليه السلام- أن كلاهما لديه علم ليس عند الآخر، وأنَّه كلّه من علم الله -تعالى- عندما قال له: (يا مُوسَى إنِّي علَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لا تَعْلَمُهُ أنْتَ، وأَنْتَ علَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لا أعْلَمُهُ).
أخبر الخضر موسى -عليه السلام- عندما وقع عصفور على طرف السفينة ونقر في البحر نقرة أنَّ علمهما لا يساوي من علم الله شيئاً، فقال: (ما عِلْمِي وعِلْمُكَ مِن عِلْمِ اللَّهِ إلَّا مِثْلُ ما نَقَصَ هذا العُصْفُورُ مِن هذا البَحْرِ).3
قال ابن المبارك -رحمه الله-: “لا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل”.
فلا يكفي أن تكون كليما لله تعالى كي تصير أعلم العلماء، فالعلم البشري نسبي ومحدود وما يتمتع به ابن آدم من معارف وعلوم ما هي إلا منحة إلهية تستوجب الشكر والاعتصام بالدعاء الوارد في قوله تعالى:”وقل رب زدني علما”.4
والناس متفاوتون في اكتساب المعرفة وطلب العلم كل بحسب جهده واجتهاده وسعيه واكتسابه والهمم تختلف والعزائم بعضها دون بعض.
فكم من بطل عالمي في علم من العلوم أو فن من الفنون أو رياضة من الرياضات تجده في مجال آخر لا يفقه شيئا يسيء أكثر مما يحسن ويفسد أكثر مما يصلح.
إن التصدي لتدبير مؤسسة من المؤسسات أو قطاع من القطاعات يمكن أن يتم من قبل أي مبتدئ إذا تسلح بأمور ضرورية. منها اتخاذ أولي العلم والخبرة بصفتهم مستشارين وعدم الاستماع للوشاة والمتزلفين والتعاون مع الشركاء لتحقيق المصلحة العامة، في إطار الثقة والاحترام المتبادل، والاستفادة من التجارب السابقة بتثمين الإيجابي منها ودعمه وتطويره وتجاوز السلبي منها.
***
الهوامش:
1 طه آية 41
2 الكهف آية 65
3 موقع موضوع.كوم https://mawdoo3.com
4 طه آية 114