من إنجازات المسلمين في رمضان 12| تطويع الفلك لتحديد هلال رمضان والأجرام

يحفل تاريخ المسلمين بإنجازات حضارية تمت في شهر رمضان الكريم لازالت بادية للعيان؛ يشهد بعضها على عبقريتهم ورقيهم، ويدلل البعض الأخر على حيازتهم قصب السبق في مجالات معرفية متعددة، حتى سارت بها الركبان كما يقال.

وكان عطاء المسلمين في شهر رمضان مضرب مثل على القدرة على بين العمل والإبداع من جهة، وأداء الشعائر التعبدية من جهة أخرى، فلم يعرف عنهم فتور بسبب الصيام والقيام، بكل كان حافزا لهم في درب الجود والعطاء.

ولا ينحصر رصد “سلسلة إنجازات المسلمين في رمضان” على إيراد الملاحم التي يشتهر بها شكر رمضان، بل يمتد إلى سرد الانجازات في مناحي متعددة، حتى لا يحسب على هذا الشهر أن شهر الغزوات والمعارك الكبرى فقط وإنما فيه عطاءات في العلم والمعرفة والتقنيات.

ارتبط صيام شهر رمضان عند المسلمين برؤية الهلال باعتباره من الظواهر الفلكية المتعاقبة في الكون، وقد سعوا في سبيل التثبت من بداية شهر رمضان من طرق متعددة منها الرؤية المجردة والحساب إلى جانب المراصد الفلكية.

ونجد هذا الربط عند الكاتب “زيغريد هونكه” في كتابه “شمس الله تشرق على الغرب” الذي رأى أن الإسلام لما جاء أوجد صلة قوية بين عقائده وفرائضه وبين النجوم وسائر الأجرام السماوية وبخاصة عند قيام المسلم بفروضه اليومية.

وشرح تلك العلاقة بشكل بسيط منها أن المؤذن في المسجد يجب أن يكون ملمًا بشيء من علم الفلك ليستطيع توقيت مواعيد الصلاة، وأن أن يعرف طلوع الهلال وغيابه في شهر رمضان شهر الصوم، وأن المسلم مطالب أيضًا بمعرفة مواعيد الكسوف والخسوف فكل منهما يتطلب الفرائض الخاصة، إلى غيرها.

وخلص إلى نتيجة حتمية تمخضت عن هذا المسار، قائلا: “فلا عجب إذا رأينا المسلمين يقبلون على كل ما يتصل بالنجوم والأفلاك لذلك شجع الخلفاء هذا الاتجاه ودفعوا الشعب إليه حتى لم يمض زمن طويل إلا وأصبح الفلك علمًا تأتي دراسته والعناية به في مقدمة العلوم الأخرى”.

ويورد الباحث عبد الله حجازي في دراسة علمية بعنوان: “إنجازات المسلمين في علم الفلك” أن المسلمين شرعوا في بناء المراصد، وهكذا بُني في عهد الخليفة المأمون مرصدٌ في دمشق على جبل قاسيون (سنة 214هـ/ 829م)، وفي الشماسية ببغداد.

وفي هذا يقول زيغريد هونكه في كتابه سالف الذكر “لم ينجح العرب في صناعة الآلة ذات الحلقات والبلوغ بها فنيا مرتبة الكمال فقط، بل أضافوا إليها ثلاث حلقات يستطيعون بواسطتها عمل مقاييس الأفق فاستخدموا «الحداد» وهو الذراع المتحركة للقراءة تجنبًا لعدم الدقة”.

ويضيف هونكه” “وزيادة في الرغبة في الحصول على قياس دقيق جدًا اخترع العرب آلات جديدة أخرى تقوم على نظريات جديدة وملاحظات جديدة وتجارب جديدة، وهذا الجهاز هو المعرف باسم السمت المربع وقد كان موجودا في مرصد «مراغه» وهو من أحسن وأدق الآلات وقد ركبه جابر بن أفلح”.

وينقل صاحب كتاب “الحضارة الإسلامية” عبد الرحمن حبنكة الميداني نصا نفيسا عن “بيكوردين” مؤلف كتاب “الإسلام والحضارة العربية” يبين فيه سبب اهتمام المسلمين بالفلك وطرق إبداعهم داخله إلى درجة بلوغ مراتب عليا.

يقول “بيكوردين”: “نشأت مكانة علم الفلك عند العرب “أي المسلمين” من توسع الرياضيين منهم في الحساب؛ لأنهم اخترعوا أساس حساب المثلثات، وحقق العرب طول محيط الأرض بما كان لهم من الأدوات، وأخذوا ارتفاع القطب ودورة كرة الأرض المحيطة بالبر والبحر، وحققوا طول البحر المتوسط الذي قدره بطليموس بـ”12” درجة فارجعوه إلى أربع وخمسين أولًا، ثم إلى “42” درجة أي: إلى الصحيح من مقداره تقريبًا”.

ويتحدث عن أسماء عبد الله حجازي عن أسماء برعت في هذا المجال فقد عمل في مرصد بغداد كثيرٌ من العلماء المشهورين من أمثال “ما شاء الله” الذي ألَّف في الإسطرلاب ودوائره النُّحاسية، و”يحيى بن أبي منصور”، الذي عهِد إليه المأمونُ التحقُّقَ من البيانات والأرصاد التي وردت في زيج بطليموس، الأمر الذي أدى إلى وضع “الزيج الممتحن الرصدي المأموني”.

وعمل في مرصد بغداد “سند بن علي”، وكان ممن كَلَّفهم المأمونُ بالقيام بمساحة درجة جغرافية بين الفرات ودجلة، كما كان ممَّن اشترك في الأرصاد التي أُجريت في بغداد ودمشقَ ما بين عامي (214 -217هـ/ 829 -832م).

وعمِل في مرصد بغداد – كذلك – أحمد بن محمد بن كثير الفرغاني، صاحب كتاب: “جوامع علم النجوم وأصول الحركات السماوية”، وكتاب: “الكامل في صنعة الإسطرلاب الشمالي والجنوبي وعللها بالهندسة والحساب”. 

وفي المغرب، ظهر مجموعة من العلماء من أبرزهم أبو الحسن المرَّاكشي (ت 660هـ/ 1262م)، وقد عيَّن – كما يذكر غوستاف لوبون – بضبطٍ لم يسبِقْه إليه أحدٌ العَرضَ والطولَ لإحدى وأربعين مدينة إفريقية، واقعة بين مرَّاكش والقاهرة؛ أي: ما مسافته 900 فرسخ، وأنه قيَّد مشاهداتِه في كتاب بعنوان: “جامع المبادئ والغايات في علم الميقات” يتضمَّن – فيما يتضمن كذلك – معارفَ ثمينة لآلات الرَّصد العربية، وقد قام سيديو بترجمة بعضه.

ويخلص عبد الله حجازي إلى أن انتشار المراصد في معظم مدن وأمصار البلاد الإسلامية؛ أسفر عن تقدُّمٍ هائل في علم الفلك، وبلوغِه مستوى رفيعًا، تحقق من جرَّائها تعيينُ انحراف سمت الشمس تعيينًا نهائيًّا بالمقدار 23 و33 و52؛ أي: ما يعدِل – كما يذكر غوستاف لوبون – الرقم في الوقت الحاضر.

وقد استثمر المسلمون كل هذه المعارف العلمية الدقيقة لحساب الشهور الهجرية وتدقيق بدايات شهر رمضان والأعياد الدينية، وقد بلغ علمهم الآفاق فاستفادت منه الدول الغربية في سلوك طريق نهضتها كما تسلمه من قبل المسلمون من حضات رومانية وإغريقية وفرعونية فطوروه وفق مبدأ تراكم العلوم. 

موقع الإصلاح

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى