مناسك الحج حين تقص الشعائر حكاية أسرة

تضطرب المشاعر وتتزاحم الأفكار كلما أعلن عن دخول العشر الفاضلة، وهبت نسائم موسم الحج، الأيام التي جاءت والقداسة تسبقها وتبشر بالفضل العميم الذي سيعم الأرض وأهلها؛ عشر تحمل الهيبة من قسم الله عز وجل بها “وليال عشر”، واختالت بين الأيام زهوا بوصف الرسول الكريم عليه أزكى الصلوات والتسليم بأنها خير أيام الدنيا، وبشر بعظم الأجر والثواب فيها.

فقد ورد في الحديث [1] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما العمل في أيام أفضل منها في هذه، قالوا ولا الجهاد؟ قال ولا الجهاد إلا رجل خرج لا يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء”، ويزيدها فضلا اشتمالها على الأفضل منها: “يوم عرفة” لحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الأيام يوم عرفة [2]، فيستجيب الفكر باحثا عن المعنى والمكنون وسط هذا الزخم من العطاء الرباني من بصائر وإضاءات، وعما تحمله تلك المناسك التي ارتبطت بها من مقاصد وهدايات.

فيا ترى ما هي؟ وكيف نستنطق”حكاية” رحلة الحج للعبور إلى فهم باعث على السعي بين “صفا” الوعي و”مروة” العمل والإنجاز؟ وهكذا حتى يقال “فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا”، لتخلص الرحلة بالحاج فرضا والحاج فكرا إلى بلوغ المعنى، والتحقق من الغاية والمقصد.

في صمت الصحراء القاحلة، وتحت لهيب شمس حارقة، وفي كل موسم أذن في الناس بالحج تنبعث من مناسكه قصة ليست كباقي القصص، قصة ضاربة في العمق، تنبش ذاكرة الجغرافيا والتاريخ وتروي “حكاية أسرة خالدة” نقشت تضحيتها في ذاكرة الزمن، وتركت على المكان حفريات طاعتها، حتى أضحت كل شعيرة تردد صدى أفعالها، وكل موضع  في المشاعريحكي خبر تضحيتها وصبرها وإيمانها:

بين الصفا والمروة؛ سعي على خطو هاجر: تلك الأم الصابرة المحتسبة الموقنة بربها حق اليقين، لم يمنعها يقينها من السعي والعمل والبحث المضني في واد لا حياة فيه، وحيث لا معين ولا سند إلا ما اشتمل عليه ذلك القلب الضعيف رأفة وحنوا على الصغير، القوي بالإيمان والثقة بالله… فخلد الله سعيها، وجعلها قدوة في الثقة واليقين.

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ البقرة-158

وما بين الصفا والمروة تتردد صرخة أم مؤمنة: آالله أمرك بهذا؟ ثم يتردد الصدى ليجيب:

إذا لن يضيعنا

هي سعت.. والله فجر زمزم

ليست هرولة عادية بل على خطى أم موقنة بالله .

إننا حينما نركض سعيا بين الصفا والمروة لا نركض عبثا، إننا على خطوها نخطو، خطوا على طريق اليقين والثقة بالله، حيث اليقين باعث على السعي، وموصل لمعين الأمل.

على ملة أبينا إبراهيم؛ الوقوف بعرفات: عندما نقف في عرفات، نكاد نسمع دعاء إبراهيم يرتفع في السماء، كما في قوله تعالى:”رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ البقرة 127

شيخ امتثل للأمر، وابتُلي في أعزّ ما يملك، في فلذة كبده وقد بلغ معه السعي، وقد صار يتوكأ عليه في شيبته… كل ذلك لم يثنه عن التضحية به والتصديق بوحي الله ” أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا”.

فخط لأمته معالم الإسلام والتسليم لرب العالمين.. واتفقا على التسليم لأمر الله وينجح في الاختبار.. ويعود إبراهيم ليستمرا معا فيكون ابنه مرة أخرى رفيقه في رفع القواعد من البيت.

ويتردد في الأجواء صدى الدعاء من جديد “رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”.سورة البقرة.الآية 128

“هو سماكم المسلمين”[3]

رمي الجمرات؛ رجم للشك والضعف: ثم نمضي إلى منى، وهناك نرجم الجمرات كما رجم إبراهيم الشيطان حين وسوس له بالتراجع عن ذبح ابنه.

إننا لا نرجم حجارة، بل نرجم الشك والضعف والتردد في داخلنا، في مشهد تتجدد فيه معركة الطاعة كل عام.

رمي الجمرات؛ مشهد من ثبات إبراهيم عليه السلام أمام وساوس الشيطان، مشهد يستدعى كل عام في رحلة الحج ؛ لا نفعل ذلك عبثا

إبراهيم رمى الحجارة بقلب موقن، ونحن نرجم وساوسنا وشكوكنا كل عام..

يوم النحر؛ ذكرى الذبح والفداء: تأكيد على مبدأ التضحية وكسر التعلق بغير الله وبأن العاقبة خيرففي يوم النحر، نذبح كما ذبح إبراهيم الفداء الذي أنزله الله، بعدما صدق الرؤيا وكاد أن يذبح إسماعيل الذي جاء بعد اشتياق، وكان موضوع الابتلاء والامتحان، ليعلن تمام التسليم والخضوع حتى لوكان الثمن غاليا، وليس هناك أغلى من فلذة الكبد..

صبر كصبر الذبيح إسماعيل: ويفاجئ المتأمل تمام التناغم في الامتثال بين أب يبادرويشاور مهما عظم الأمر، وابن يتجاوب رضى وصبرا وثباتا، كأنما الصبر كان قطعة واحدة فانشطرت شطرين سمي الأول إبراهيم، والآخر إسماعيل..

يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ[4]

والعاقبة فداء من الجنة.. “وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ”. سورة الصافات الآية 102

كل شعيرة في الحج خلفها مقصد وحكاية، وكل أيام العشربركة وهداية، وليس ما نؤديه فيها مجرد طقوس، بل هي سرد إيماني حين يحكي قصة أسرة مؤمنة..

أسرة اختبرها الله.. فجعلها قدوة خالدة

أسرةٌ اصطفاها وامتحنها رب العالمين، فنجحت في أعظم اختبار عرفته البشرية.

أسرةٌ لم يُروَ لنا كثير عن تفاصيل حياتها اليومية، ولا عن مقدار الحب المتبادل بين إبراهيم وهاجر، ولا عن شكل الحوارات التي جمعتهما، ولا عدد اللحظات التي قضياها في التنسيق والتفاهم والتشارك.

لم نُخبَر عن منهج التربية الذي تلقّاه إسماعيل ليبلغ هذا المقام الرفيع في الطاعة، ولا عن شكل العلاقة التي جمعت بين الأب والابن، أو بين الأم وطفلها في وادٍ غير ذي زرع.

لكننا نعلم شيئًا أعظم من كل ذلك…

نعلم أن هذه الأسرة خلدها القرآن الكريم لأنها جسّدت في مواقفها جمالية العبودية لله.

لم يكونوا مجرد أبطال قصة، بل كل فرد فيهم كان عِبرة قائمة بذاتها:

  • إبراهيم: الزوج، الأب، النبي…
  • هاجر: الزوجة، الأم، المؤمنة الصابرة…
  • إسماعيل: الابن، المطيع، الساكن لقلب أبيه، والمستسلم لأمر ربه…

لم يخلّدهم التاريخ لأجل روابطهم الأسرية فحسب، بل لأن كل موقف في حياتهم كان انعكاسًا لعقيدة راسخة لا تتزعزع مهما اشتد البلاء.

وفي كل موسم حج، نقرأ قصتهم من جديد…

القصة دعوة صامتة للتأمل، وهداية متجددة للقلوب الباحثة عن المعنى

المناسك قصة عائلة أحبها الله، فاختبرها، ثم جعلها مناراتٍ تهدي الحيارى، وهداياتٍ مشرقة للقلوب، إلى يوم الدين.

كلثوم بندية


هوامش

[1] ورد في صحيح البخاري وغيره

[2] رواه ابن حبان

[3] سورة الحج، الآية: 78

[4] سورة الصافات. الآية: 102

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى