ملاذ المستضعفين من وحي سورة الكهف (1) – سحر الخطيب

لا يزال الاستضعاف سنة جارية إلى قيام الساعة ما دام الطغيان و الاضطهاد ساريان في المجتمعات و الحضارات المتعاقبة على وجه البسيطة. فكلاهما في تدافع تدافع الخير و الشر و الحق و الباطل إلى أن يرث الله الأرض و من عليها. و لم يستثن من هذا الابتلاء حتى الأنبياء و المرسلون،  و المصلحون و هم المصطفون الأخيار، لم يستثن لا نوح و لا إبراهيم و لا لوط و لا موسى و لا عيسى عليهم السلام و لا ختاما خير خلق الله محمد صلى الله عليه و سلم.

سورة الكهف لم تذكر مصطلح “الاستضعاف صراحةً كما في سور أخرى (مثل القصص أو النساء)، لكنها تضمنت مواقفَ يمكن استخلاص معاني الاستضعاف والظلم والنجاة الإلهية منها، خاصة في قصة أصحاب الكهف وقصة موسى والخضر.

في رحاب سورة الكهف، يجسد المستضعفون قوة الإيمان في زمن الطغيان. و قبل سرد هذه القصة، خاطب المولى عز و جل نبيه الكريم عليه السلام و هو في حالة من الاستضعاف قائلا له: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) الكهف، 06.  ثم مهد لهذه القصةٌ الخالدة التي تجلي صراع الحقّ والباطل، وتُظهر مصير المستضعفين الذين آثروا الإيمان على الحياة تحت نير الظلم. إنهم فتية الكهف، أولئك الشباب الأبرار الذين رفضوا عبادة الأوثان، وهربوا من سطوة طاغية عاتٍ، فآووا إلى كهفٍ مظلم، لكنه كان نورًا في قلوبهم، وملجأً لإيمانهم.

لقد كان هؤلاء الفتية ضحايا اضطهادٍ دينيّ، حيث أرغمهم الحاكم الكافر على ترك عقيدتهم، إنهم يمثلون صورة المؤمن المقهور فما كان منهم إلا أن قالوا بثبات:(رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (الكهف: .14 و تضرعوا بإخلاص بعد أن أووا إلى الكهف قائلين: (ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا) الكهف: 10

اختار هؤلاء الفتية، رغم سنهم اليافع،  العزلة عن مجتمعٍ فاسد، واللجوء إلى كهفٍ يحميهم من سطوة الطغيان، بأمر من ربهم الذي وعدهم بنشر رحمته و تهييئ الظروف الملائمة لهم : (فأووا إلى الكهف، ينشر لكم ربكم من رحمته و يهيئ لكم من أمركم مرفقا) الكهف 16. فكانت هجرتهم صرخةً ضدّ الظلم، ودرسًا في التضحية بالدنيا من أجل الدين. فأحاطت بهم العناية الإلهية لقرون؛ بل أيقظهم بعد نومٍ طويلٍ كعلامةٍ على أن حقّ المؤمن لا يضيع، وأن المستضعفين في الأرض أعزّةً في السماء قبل الأرض. لقد حوّل كهفهم إلى معجزةٍ ترويها الأجيال، وجعل نومتهم آيةً للناس: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ) الكهف: 18.

ليست قصة أصحاب الكهف مجرد حكايةٍ تاريخية، بل هي رمزٌ للمؤمنين في كل عصرٍ يواجهون الطغيان. فهم برهان على أن الإيمان أقوى من القهر، وأن الهجرة قد تكون خلاصًا حين يعجز التغيير و أن الله يحفظ عباده المستضعفين، ولو بعد حين. فيا من تشعر بالضعف تحت وطأة الظلم، تذكّر أن الكهف قد يكون بداية النصر، وأن نومةَ الفتية كانت رحمةً لا هزيمة. و أن الضرب على الآذان منحة و ليست محنة. فالثباتُ على الحقّ هو العزّ الحقيقي، حتى لو كان الثمنُ عزلةً في كهفٍ مظلم. فسلاح المؤمن المقهور في زمن الاستضعاف هو الاعتصام بكتاب الله و هو الذكر و الدعاء لأن لا منجى و لا ملجأ من الله إلا إليه، و هو أيضا الصبر مع الفئة المؤمنة و عدم التطلع إلى زينة الحياة الدنيا و عدم طاعة الغافلين ممن اتبعوا الأهواء و الشهوات (وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا (27)  وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا (28)) الكهف، 27-28.

فِي رحاب سورة الكهف أيضا، فِي مَثَلِ صَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ، يبرز الاستضعاف أمام الطغيان المادي، فهناكُ مَشْهَدَانِ مُتَعَاكِسَانِ: رَجُلٌ تَاهَ فِي زِينَةِ مَالِهِ، وَرَجُلٌ مستضعف تَمَسَّكَ بِحَبْلِ الْإِيمَانِ:(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ. (الْكَهْف: 32. فلنتأملْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي أَغْرَقَتْهُ النِّعْمَةُ فَاسْتَكْبَر، امتلك جَنَّتَينِ تَزْهُو بِالْأَثْمَارِ، وَيَفِيضُ الظِّلُّ وَالْمَاءُ حَوْلَهُمَا، لَكِنَّ قَلْبَهُ تخلى عِنَ الشُّكْرِ و نسي المنعم، فيَقُولُ الطَّاغِي فِي حُلَّةِ الثَّرَاءِ لِصَاحِبِهِ الْمُؤْمِنِ بِغُرُورٍ:(مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا 35 وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً 36  (الْكَهْف: 35-36 . فَكَانَ مَصِيرُهُ خَسَارَةً مُرَوَّعَةً حِينَ أَصْبَحَتْ جَنَّتُهُ صَرِيعَةَ رِيحٍ صَرْصَرٍ، فَتَذَكَّرَ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَوَانِ: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (الْكَهْف: 42. أَمَّا صَاحِبُهُ الْمُؤْمِنُ، فَقَدْ كَانَ ضَعِيفًا فِي مَظَاهِرِ الدُّنْيَا، لَكِنَّهُ قَوِيٌّ بِاللَّهِ، لَمْ يَفْتِنْهُ زُخْرُفُ الْجَنَّتَيْنِ، فَقَالَ بِحِكْمَةٍ: (لَعَلَّ رَبِّي يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ. (الْكَهْف: 40. كَانَ يَدْرِي أَنَّ الْعِزَّ فِي الطَّاعَةِ، وَأَنَّ الْفَخْرَ الْحَقِيقِيَّ لَيْسَ بِالْحُصُونِ وَالْأَمْوَالِ، بَلْ بِالْإِخْلَاصِ. في نفس الوقت، كان هذا المؤمن المستضعف يمارس مهمته الدعوية الرسالية مذكرا صاحبه المغتر بما امتلكه من زينة الحياة الدنيا قائلا له:

(وَلَوۡلَآ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالٗا وَوَلَدٗا (39) فَعَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يُؤۡتِيَنِ خَيۡرٗا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرۡسِلَ عَلَيۡهَا حُسۡبَانٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصۡبِحَ صَعِيدٗا زَلَقًا (40) أَوۡ يُصۡبِحَ مَآؤُهَا غَوۡرٗا فَلَن تَسۡتَطِيعَ لَهُۥ طَلَبٗا (41)) الكهف 39-41.

فالمؤمن المستضعف، رغم قلة ماله و و لده، يحاور صاحبه المتكبر، الظالم لنفسه، يذكره بالتراب، أصل خلقه و بالنطفة معدنه  الوضيع، يقترح عليه الحل أمام طغيان المال و ينصحه بتذكر المنعم و ذكره و أداء واجب الشكر على النعمة. و في النهاية عند امتناع المغتر بماله عن الامتثال، يدعو عليه المؤمن المستضعف بفقدان هذه النعم. و يستجيب الله دعاءه فيدمر الجنتين و يحرم صاحبهما من ولايته و عظيم فضله.

فَالْمؤمنون المسْتَضْعَفُونَ الْيَوْمَ ْ سيَكُونُونَ أَصْحَابَ الْعِزَّةِ غَدًا، وَالطُّغَاةُ الْمُتَكَبِّرُونَ لَا يَزِيدُهُمْ مَالُهُمْ إِلَّا بُعْدًا عَنِ الرَّحْمَةِ. فَلَا نلْتَفِتْ إِلَى ظَاهِرِ الْقُوَّةِ، فَإِنَّ الْحَقَّ لَا يُقْهَرُ، وَالْبَاطِلَ لَا يَدُوم.

يا مَنْ تَرَى الْظُّلْمَ يَتَرَاكَمُ كَالْجِبَالِ، وَالْفُقَرَاءَ يُسَحَّقُونَ تَحْتَ أَقْدَامِ الْأَغْنِيَاءِ: لَا تَغْتَرَّ بِبَرَّاقِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا لَحْظَةٌ عَابِرَةٌ، وَتَذَكَّرْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنَّ الْغَلَبَةَ فِي النِّهَايَةِ لِمَنِ اتَّقَى.

و في زمنٍ صار فيه الحَجَرُ شاهِدًا، والبُنْيَانُ شَهيدًا، تَبرُزُ غَزَّةُ كأعظم مَشهدٍ للاستضعاف في عصرنا. مدينةٌ تُحاصَرُ بالحديد والنار، ويُحاصَرُ أَهلُها بالتجويع والتخويف و التعذيب، لكنها ترفض أن تموت.

هناك في غزة، حيث يُقاسي الأطفالُ قسوةَ العالَم قبل أن يتعلَّموا حلاوته، يصبح الاستضعافُ درسًا يوميًّا :طِفلٌ يبحث عن خُبزته بين الركام، وكأن الحياة تُعلِّمه أن الأمل قد يكونُ مطمورًا تحت الأنقاض. أُمٌّ تَدفنُ أولادها بوَجهٍ لا يَخشى الدمع، لأن دموعها صارت وقودًا للصمود. شابٌّ يُقاوِمُ بسلاحِ الإرادة، وكأنه يردد :  لن نَموت حتى لو قَتَلونا.

إنه العجبُ كل العجب! مدينةٌ مُحاصَرة مستضعفة تُعلِّم العالَم معنى الكرامة:

  • يَخْسرونَ الأرضَ، لكنهم يربحون السماء.
  • تُهدم بيوتُهم، لكنَّ قلوبَهم قِبابٌ لا تُهزَم.
  • يُحاصَرون بالحديد، لكنهم يَفُكونَ الحِصارَ بالصلاة.

غزة لا تشبه أيَّ مكانٍ في العالم.. هنا، الموتُ عاديٌّ، لكن الحياةَ هي المعجزة.” لو كان الاستضعافُ يُقاسُ بالدموع، لَغَرِقَتْ غزةُ منذ زمن. ولو كان يُقاسُ بالصبر، لَصارَتْ غزةُ أعظمَ جامعةٍ تخرِّج الأبطال.

لكنَّ غزةَ تُذكِّرنا دائمًا بأن الاستضعافَ الظاهريَّ يكونُ غِطاءً لعِزَّةٍ باطنة، وأنَّ مَن يَظنُّهم العالمُ ضُعفاءَ، هم في الحقيقة أقوياءٌ بإيمانهم، صامدون بربهم. فإذا كان الجَبَروتُ العالميُّ يُحاولُ إخفاتَ صوتهم، فإنَّ أنينَ طِفلتهم الأخيرة تحت الركام سيبقى صوتًا يصرخ في ضمير الإنسانية. و ستظل غزة الكهف الذي ينبعث من داخله، و من تحت ركامه و من بين أنفاقه الحرية و الكرامة و القوة للإنسانية جمعاء و مهما بلغ الطغيان و الجبروت المادي في وجه غزة، فلن يحقق مبتغاه مصداقا للآية الكريمة: (وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٞ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (43) هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّۚ هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ عُقۡبٗا (44)) الكهف 42-44.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى