مكاسبنا في رمضان.. وكيف نحافظ عليها؟
علمنا ديننا الحنيف أن شهرَ رمضان محطةٌ للتزود بالبر والتقوى وعمل الخير، لضمان حسن الاستمرار في الارتباط الوثيق بالله عز وجل في بقية أشهر السنة. ولذلك فإن انتهاء أيام شهر رمضان لا يعني أن زمن الطاعة والعبادة والصلة بالله عز وجل قد ولَّى، أو أن موسم البر والتقوى قد انقضَى.. كلا، فإن مواسم الطاعات في حياة المسلم لا حدَّ لها ولا نهاية، وما كان رمضان إلا محطة للتزود بالطاقة اللازمة للاستمرار، والوقود الضروري لمواصلة السير. واليوم، ونحن نتهيأ لتوديع هذا الشهر الفضيل وهذا الموسم الكريم، من واجب كل واحد منا أن يتساءل بينه وبين نفسه عن الزاد الذي اكتسبه من هذا الشهر وعن الأرباح التي حققها فيه، وكيف يمكن المحافظةُ على هذه المكاسب والأرباح واستثمارُها أحسن استثمار في بقية شهور العام؟
الصيام أول المكاسب
لعل أول مكاسبنا من هذا الشهر هو عبادة الصيام بحد ذاتها، فقد تعودنا على هذه العبادة واستمتعنا بممارستها وتمرنت عليها نفوسنا وأجسامنا خلال شهر كامل، وهذا مكسب عظيم لا يقدر بثمن، ولذلك ينبغي أن نحافظ على هذا المكسب ولا نفرط فيه، فهذه المحافظة من شأنها أن تعود علينا بالخير العظيم والثواب الجزيل من الله الكريم، فقد روى مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا). وروى الترمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِأَمْرٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ. قَالَ: (عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ).
والمحافظة على هذا المكسب إنما تكون بتجديد العهد مع الصيام مباشرة بعد عيد الفطر، حيث سنَّ لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم صيامَ ستة أيام من شوال، ووعدنا عليه بالأجر الوفير والثواب الجزيل، فقد روى مسلم عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ)، وقد جاء تفسيرُ ذلك في الحديث الذي رواه أحمد عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ فَشَهْرٌ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ، فَذَلِكَ تَمَامُ صِيَامِ السَّنَةِ).
ولا يتوقف الأمر في علاقة المسلم بالصيام عند هذا الحد، بل إنه مطالب بمصاحبةِ هذه العبادة وممارستِها على مدار السنة كلها، بالإتيان بما سنَّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نوافلها. فمن كان مطيقا وقادرا على الصيام وأراد الاجتهاد في طاعة الله وعبادته، فعليه بصيام داود عليه السلام، وهو صيام يوم وإفطار يوم، حيث روى البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه أراد أن يجتهد في الصيام فيصوم دائما ما عاش، فقال له رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ) قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فقَالَ عليه الصلاة والسلام: (لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ).
ومن لم يكن قادرا على هذا المستوى، فهناك مستوى دونه يمكن للمسلم أن يواظب عليه، ألا وهو صيام يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، روى الترمذي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: “كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ”. وروى النسائي عن أُسَامَة بْنِ زَيْدٍ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامه هذين اليومين فقَالَ عليه الصلاة والسلام: (ذَانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ).
ومن عجز عن تحقيق هذا المستوى، فهناك مستوى آخر دونه، وهو صيام الأيام البيض من كل شهر قمري، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، فقد روى الترمذي عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا صُمْتَ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ).
ولا تتوقف المواسم التي يُستحب فيها الصيام عند هذه التي ذكرناها، بل تُضاف إليها مواسم أخرى موزعة على مدار السنة، منها صومُ يوم عرفة لغير الحاج، وصوم التاسع والعاشر من شهر محرم (تاسوعاء وعاشوراء)، وصيام ما أمكن من الأشهر الحُرُم، وكذلك صيام ما أمكن من شعبان تهيئة لصيام رمضان.
المحافظة على الصلاة مكسب
وكما كان شهر رمضان موسما للتعود على عبادة الصيام، فقد كان أيضا مناسبة للتعود على الاجتهاد في الصلاة وقيام الليل والتهجد بالأسحار. وذلك ـ بلا شك ـ مكسب ثمين هو الآخر، لا يجوز التفريط فيه أو التهاون في المحافظة عليه. فإذا كنا نودع مع انقضاء أيام رمضان صلاة التراويح، فإن مواسم الصلاة متجددة في كل يوم وفي كل أسبوع، وهي أفضل وأعظم من صلاة التراويح، والمحافظة عليه أوْلى وأوْجب.
فالصلاة المكتوبة موعد يومي مع الله، والاجتماع عليها والتعاون لإقامتها واجب شرعا، قال تعالى: ((إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا))، وقال عز وجل في وصف عباده المؤمنين المفلحين: ((وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ))، وروى مسلم عن جابر رضي الله قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم مبينا أثر الصلاة في حياة المسلم: (مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كَمَثَلِ نَهْرٍ جَارٍ غَمْرٍ عَلَى بَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ). وروى مسلم أيضا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً).
وصلاة الجمعة موسم، والسعي إليها فرض عين على كل من وجبت في حقه، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ))، وروى مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ).
والصلاة في جوف الليل موسم يعظم فيه الأجر ويستجاب فيه الدعاء، روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: (أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ؛ الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ).
وهناك مواسم أخرى كثيرة يُستحب من المؤمن أن يتقرب فيها إلى ربه عز وجل بالصلاة، فيُندب مثلا صلاة ركعتين قبل الفجر، وصلاتا الشفع والوتر بعد العشاء، وصلاة الضحى، والرواتب التابعة للصلوات المكتوبة. فهذه كلها مواسم لطاعة الله عز وجل والتقرب إليه بالصلاة، ويكفي في ذكر فضلها وبيان أهميتها وعظيم أجرها عند الله عز وجل، قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة، إلا بنى الله تعالى له بيتا في الجنة)، أو (إلا بُنِيَ له بيتٌ في الجنة).
العطاء والصدقة مكسب
ومن المكاسب التي يُحَصِّلها المؤمن من شهر رمضان، إلى جانب التعود على الاجتهاد في الصيام والصلاة؛ الاجتهادُ في الصدقات.
والصدقة في حياة المسلم لها أهميتها الخاصة في إطار علاقته بالله عز وجل، قال سبحانه وتعالى: ((لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ))، وروى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ عَنْ مِيتَةِ السُّوءِ).
وهي في رمضان لها مكانتها المتميزة وقيمتها العظيمة في ميزان الله عز وجل، فقد روى الترمذي عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: َأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فقَالَ عليه الصلاة والسلام: (صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ). وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل بنفسه، فكان يبالغ في الصدقة في رمضان، روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. وروى الترمذي عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا).
بفضل هذه التوجيهات، وحرصا على الأجر والثواب، وشعورا بآلام الآخرين ومعاناتهم، يواظب المسلم على الصدقة في رمضان، ولا شك أن هذا مكسب ثمين ينبغي أن يحافظ عليه، ولذلك فهو مدعو إلى تجديد العهد مع الصدقة بعد رمضان وخلال سائر أيام العام، فيجتهد في التصدق بما هو زائد عن حاجته، رغبة فيما عند الله عز وجل، فقد وصف الله عباده المؤمنين فقال: ((الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)). وروى البخاري عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَلَا يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ).
والصدقة ليست بالمال فقط، ولكنها أيضا بالجهد والعمل، فصورها كثيرة ومجالاتها غير محدودة، ولذلك كان المسلم مطالبا بأن يحصد ما استطاع من الأجر في كل يوم بعمل الصالحات؛ فالسعي في طلب الرزق صدقة، والإنفاق على الأهل صدقة، وإكرام الضيف صدقة، وصلة الرحم صدقة، وإفشاء السلام صدقة، وإغاثة الملهوف صدقة. روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ: كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ).
والصلة بالقرآن مكسب:
وفي رمضان يقبل أكثر المؤمنين على قراءة القرآن وتلاوته في الليل والنهار، وهو ما يوثق صلتهم بكتاب ربهم ويجعلهم أقرب إلى الهداية وأبعد عن الضلال، قال الله عز وجل : ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً)). هذه الصلة بالقرآن هي الأخرى مكسب من المكاسب التي يحصلها المؤمن في رمضان، وإنه ليجدر به أن يحافظ عليها بعد رمضان، فيجتهد في قراءة القرآن وتلاوته وتدبر معانيه وحفظ ما أمكن من سوره في سائر أيام العام.
لقد دعا الله سبحانه وتعالى إلى تلاوة كتابه، فقال عز من قائل: ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)). وأثنى عز وجل على التالين لكتابه فقال: ((إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ. لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)). وبين النبي صلى الله عليه وسلم فضل تلاوة القرآن ومكانة صاحبه، فقد روى مسلم عن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ). وروى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ).
فلا بد للمؤمن أن يحرص على قراءة القرآن وختمه مرة بعد مرة، حتى يكون من الذاكرين ولا يعتبر من الغافلين، وليتأس في ذلك بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه السلف. فقد روى مسلم وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ)، قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً ، قَالَ: (فَاقْرَأْهُ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً)، قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: (فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ).. وقال مكحول رحمه الله: “كان أقوياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأون القرآن في سبع، وبعضهم في شهر، وبعضهم في شهرين، وبعضهم في أكثر من ذلك”.
والصبر أبرز المكاسب
وهناك مكسب آخر المفروض أننا تزودنا بنصيب كافٍ منه في رمضان، ومن الواجب علينا أن نحافظ عليه في سائر أيام العام إلى أن يعود إلينا رمضان، هذا المكسب الثمين، هو خلق الصبر، فقد كان رمضان موسما للصبر على الطاعة بتحمل مشاق الجوع والعطش والتعب، وتحمل مشاق قيام الليل والتهجد بالأسحار، واحتساب ذلك عند الله عز وجل، عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). وكان موسما للصبر عن المعصية، والبعد عن كل ما يجر إليها، امتثالا لتحذير الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ). وكان كذلك موسما للصبر على الأذى، حرصا على العمل بتوجيه النبي عليه الصلاة والسلام: (وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)..
هذا الصبر الذي حرص عليه المؤمن في رمضان امتثالا لأمر الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام، ينبغي أن يحرص على المحافظة عليه بعد رمضان، امتثالا كذلك لأمر الحق سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))، ورغبة فيما أعده الله عز وجل من جزاء للصابرين، في قوله سبحانه وتعالى: ((إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)).
وهكذا يتبين أن حياة المسلم كلها مواسم للطاعات، وليس رمضان فقط، فما من سنة، أو شهر، أو أسبوع، أو يوم، أو ساعة، أو دقيقة من حياة المسلم، إلا وهي موسم من مواسم الخير وموعد من مواعيد الحصول على الأجر والثواب، أليس ذلك هو المراد من قول الله عز وجل: ((قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)).
الإصلاح