مقاصد الأسرة في القرآن الكريم – نورالدين قربال

توطئة:
هل يمكن إهمال حضور الأسرة في التجمعات البشرية؟ هل يمكن بناء أسرة متميزة بعيدا عن التدين؟ ما موقع الفطرة الإنسانية وسلامة الاعتقاد في حفظ الأسرة؟ كيف نؤسس لبناء أسرة انطلاقا من مقاصد قرآنية؟
الوجود الأسري والقيم:
ابتداء كلمة أسرة غير واردة في النص القرآن، لكن وردت بمصطلحين «الآل والأهل”. الدالتين على العشيرة وجماعة الرجل. لكن وردت نصوص كثيرة التي عمرت مساحات متعددة ومتنوعة حسب المقال والمقام في النص القرآن على مستوى التشريع والقيم والأحكام.
ومن الآيات الجامعة التي تستهدف فلسفة الوجود الأسري، وآفاقه، والقيم المؤطرة لاستمراره قوله تعالى في سورة الروم الآية 20 “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”.
مصطلح سكن في القرآن الكريم يتخذ بعدين: مادي ومعنوي. فالأول وارد في قوله تعالى في سورة النحل الآية 80 “والله جعل لكم من بيوتكم سكنا” الآية. أما البعد القيمي المعنوي تؤكده سورة التوبة الآية 104 “خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم. إن صلواتك سكن لهم. والله سميع عليم”. إن الجمع بين البعدين يؤدي إلى تحقيق المقصد من السكن بما يحمل من دلالات شكلية وجوهرية.
إن الزواج انطلاقا من منطوق الآية 20 من سورة الروم من آيات الله، ومن تشرف بهذا المقام فيجب أن يراعيه حق رعايته. من أجل الارتقاء إلى هذا المقام يلزم معرفة أن الله خلقنا من نفس واحدة، وخلق منها زوجها. فهل يمكن للإنسان أن يشعر بالغرابة من أمر مشترك في الخلق؟ وهذا أس وجودي مهم ينضاف إلى أن الزواج من آيات الله. إضافة إلى هذا استحضار مفهوم السكن، والمودة والرحمة. فالتراحم تتأسس عليه الأسرة، ماديا وأخلاقيا ومعنويا مما يضمن لهذ الخلية المجتمعية القيام بمسؤوليتها التي كلفت بها داخليا وخارجيا. لأن القضية مرتبطة بشبكة علاقات وتشريعات وقيم ومقاصد تهم الأبوة والبنوة والمصاهرة والمواريث والرضاعة وصولا إلى التماسك الاجتماعي الذي يفرض علينا نقلا وعقلا ما يلي: التحصن عن الشيطان، ترويح النفس وإيناسها بالمجالسة والنظر، ومجاهدة النفس ورياضتها، وطلب السكن والازدواج، والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية، والتمتع بالحلال واجتناب المحظور، وحسن تنظيم العلاقة بين طرفين، وحفظ النسب، والتدين في الأسرة، وتعزيز البعد المؤسساتي للأسرة، والشهادة على الناس.
لقد توسع أهل المقاصد في هذا نحو الإمام الشاطبي، والإمام الغزالي، والسيد جمال الدين عطية، وغيرهم رحمهم الله تعالى. أما ابن عاشور فقد خص العائلة بالحديث في كتابة الرائد مقاصد الشريعة الإسلامية تحت عنوان مقاصد أحكام العائلة. مركزا على إحكام آصرة النكاح، وآصرة النسب والقرابة، وآصرة الصهر. مبرزا طرق انحلال هذه الأواصر.
القيم المركزية في الأسرة:
من خلال تتبعنا لمقاصد الأسرة في القرآن الكريم نجتهد في تحديدها فيما يلي: المودة، والرحمة، والشورى، والعدل، والفضل، ولن ندرك هذا إلا بقوة التفكر والتدبر والتفاعل والتذكير الدائم. فالمودة بدون رحمة لا تكتمل، والجمع بينهما يؤدي إلى الاستمرارية وربط الدنيا بالآخرة. أما الشورى فتدل أنه لا استبداد داخل البيت. فالشورى أساسية ومركزية في العلاقة بين كل أفراد الأسرة، وهي تدريب داخل الأسرة أولا تم توسيعها على جميع المستويات ورحم الله الشيخ النحناح الذي كان يجمع بينها وبين الديمقراطية في قوله” الشوروقراطية” لأنه لا مشاحة في الاصطلاح المهم هو احترام القيم التي تختزنها وأهمها العدل والفضل. لقد أبدع الدكتور فريد شكري في مصطلحي العدل والفضل في كتابه القيم” الأسرة بين العدل والفضل”.
فالعدل والفضل قيمتان أساسيتان في بناء الأسرة. فالأول أرضية صلبة تقوم عليها المنظومة التشريعية، والثانية تمثل الفضاء الذي يمتد فيه هذا البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضا، مستنتجا أمرين أساسين، كلمات الله تبنى على الصدق والفضل، وأحكام الله تؤسس على العدل والفضل. لذلك اعتبر الأسرة محضنا مركزيا لتعلم القيم عن طريق التربية. بذلك نضمن التماسك الأسري السليم والامتداد الاجتماعي القويم. لهذه الاعتبارات أكد المؤلف على أن العدل مشترك بين الثقافات لكن يتميز التصور الإسلامي بقيمة الفضل. فالفضل ماء تسبح فيه قيمة العدل وهواء تستنشقه. مما يولد المرونة والامتداد. ويجنبنا من رعونات الصدام، وتشنجات الخلاف.
معالم قرآنية في الطريق:
من أجل توضيح أكثر لهذه الجدلية مثل الدكتور ببعض الآيات المعززة. ورد في سورة الفرقان الآية 74 “والذين يقولون ربنا هب لنا من ازواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما”.
هذا الدعاء من أدعية عباد الرحمان الواردة في النص القرآني. كما أن العبادية صفة اصطفائية وانتقائية بمقتضى الألوهية. فهي شاملة للتدين والورع. والآية تجمع بين اللذة والرسالية. أما الآية الثانية وردت في سورة الروم الآية 20 كما تقدمت معنا في البداية، والتي اختتمت بالدعوة إلى التفكر. الذي يجب أن ينصب على المعاني المتعددة والدلالات المتجددة للأسرة مفهوما ووظيفة. فالمرأة التي يتزوجها الرجل من نفسه وجزء منه ومكملة له.
من تم فالزوجية قانون كوني، ونعمة عظمى، وظلال نفسية ومعنوية وعاطفية. كما أن هناك فرقا بين لتسكنوا معها بوصفه اعتبارا ماديا. ولتسكنوا إليها اعتبار معنوي قائم على من الاختيار: فاظفر بذات الدين ومن ترضون دينه وخلقه. الآية الثالثة واردة في سورة البقرة الآية 186 “هن لباس لكم وأنتم لباس لهن”. الآية. فكما أن اللباس دفء من الناحية المادية فهو دفء عاطفي معنويا، أي الحميمية. وهو اختيار أثناء الاقتناء كما أنه اختيار في الحياة من الطرفين مبني على الورع والدين والأخلاق. كما أنه ستر من كل شيء، وكذلك يحظر على الزوجين إفشاء أسرارهما. والآية الأخيرة الواردة في سورة البقرة الآية 235 “ولا تنسوا الفضل بينكم. إن الله بما تعملون بصير”. الآية الفضل جبلي وفطري في الإنسان أصلا، لكن يلزمه التذكير الدائم، والترغيب في العفو لأن الله تعالى عفو كريم يحب العفو ونسأله سبحانه أن يعفو عنا.
أخيرا وليس آخرا:
إن القرآن ينظم العلاقة بين الرجل والمرأة، لذلك ينص دائما على حفظ النسل لكي تستمر الحياة، وتتم عملية الاستخلاف وعمارة الأرض بأمن واستقرار. كما أمر بحفظ الأنساب والعفاف والإحصان لكي يحصل الاستقرار والتكامل. لا يمكن بناء هذا إلا بالدين والاجتهادات الكونية البانية، وهذا تأهيل للتواصل والتعارف وللسلامة والأمن والتماسك والتعاضد والتعاون.
هذا ما يتطلب منهجية محكمة لتدبير الأسرة وبنائها والحفاظ عليها، وتكون هذه المنهجية مبنية على الدين الإسلامي السمح، والابتعاد عن الكلفة من أجل صناعة الألفة، وهذا قمة الرشد والفلاح، الذي يؤهلنا للتعامل مع مستجدات العصر بالعقلانية والأدب والاحترام دون صدام ولا تشنج لأن لله عاقبة الأمور. لان المنطلق هو الميثاق الغليظ.
لقد أبرز القرآن الكريم خطوات للتأمل وللعبرة وللاستشراف وهذا هو عمق التفكر الذييتجلى فيما يلي: إن خلق الانسان من نفس واحدة مدعاة للتآلف والتغافر،وليسالتنافر والتجاهل. لذلك بني الزواج على التأبيد وليس التأقيت، في إطار منظومة قرآنية أبرزت الأحكام والآداب والمعاشرة بالمعروف والابتعاد عن الشر والإثم.
نتمنى أن نعي هذه الحقائق لأنها مساعدة من حيث النظر والتنظير الوجودي لماهية ودلالة الأسرة لنخرج بمشروع مدونة تحترم الأصول وتنفتح على الجيد الذي لا يتعارض مع الأحكام القطعية ولا يخلط بين الحلال والحرام. وهذا ما لمسناه دوما في توجيهات جلالة الملك باعتباره أميرا للمومنيين وحامي الملة والدين.