“مفارقات غريبة” بين التطبيع مع الكيان الصهيوني وجهود إعمار فلسطين
في موقف مُخْزٍ ومرفوض صادق مجلس النواب يوم الإثنين 21 نونبر الجاري على مشروعي اتفاقين مع الكيان الصهيوني تقدمت بهما الحكومة، يتعلق الاتفاق الأول بتيسير المشاركة في المعارض التجارية والتظاهرات الاقتصادية التي تعقد في البلدين، فيما يهم الاتفاق الثاني تعزيز الخدمات الجوية بين البلدين. وتم إبرامهما في إطار مقتضيات الإعلان المشترك بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية وكيان “دولة إسرائيل”.
وهو الموقف الذي يشكل هرولة إضافية في مسار التطبيع وتقديم الفرصالمجّانية لمزيد من الاختراق الصهيوني لبلادنا واقتصادنا، ومالذلك من مخاطر جمّة على النسيج الوطني؛ سبق أن نبَّهنا إليها ونبَّهت إليها العديد من الأصوات الحرة والقوى الحية ببلادنا. كما يعبر عن عدة “مفارقات غريبة” لدى المؤسسات في تعاطيها مع مسار التطبيع ودعم القضية الفلسطينية.
المفارقة الأولى: المؤسسة التمثيلية للشعب تُناقِض موقف الشعب وقواه الحية.
فموقف المصادقة مُخزٍ لأنه صادر عن مؤسسة تشريعية وتمثيلية يُفترض فيها التعبير عن الإرادة العامة للمغاربة والانسجام مع موقف الشعب المغربي المناهض بفطرته للصهيونية وللتطبيع مع الكيان الغاصب، والمناصر للشعب الفلسطينيوالمدافع عن الأقصى والقدس والمقدسيين، والذي تُعَدُّ المسيرات الشعبية المليونية التي احتضنتها وتشهد عليها أكبر شوارع المملكة خير دليل عليه كموقف شعبي أصيل وعريق في تاريخ المغرب والمغاربة.
المفارقة الثانية: المؤسسة التشريعية تخالف مواقفها السابقة المعهودة تجاه فلسطين.
فهذا الموقف المرفوض لا يليق بمؤسسة ما فتئت تعبِّر عن دعمها ونصرتها للكفاح الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الصهيوني وسياساته العدوانية، وقد كان منبر مجلس النواب شاهدا على تعبيرات لمختلف الأحزاب الوطنية خاصة في اللحظات العصيبة التي عاشها الشعب الفلسطيني الشقيق.
وهو موقف مُخز لا يشرف البرلمان المغربي الذي له باع محترم في دعم القضية الفلسطينية، وقد سبق أن أرسل بعثة برلمانية لزيارة قطاع غزة من أجل كسر الحصار ودعم الإعمار، كما سبق لمجلسي البرلمان أن استقبلا وفدا عن منظمة برلمانيون من أجل القدس، بل وكان البرلمانيون المغاربة مساهمين في تأسيس “رابطة برلمانيون لأجل القدس” منذ أكتوبر2015، كما أسهم عدد من المستشارين البرلمانيين سنة 2017 في طرد وفد صهيوني ترأسه آنذاك وزير الحرب الصهيوني السابق عمير بيرتس.
وهو أيضا موقف مرفوض ومُخز ومخجل لأن المصادقة على هذه الاتفاقيات تمّت بسرعة ودون نقاشات جدية ومسؤولة تُذكر، مما يعني أن المؤسسة التشريعية لم تعد سوى غرفة تسجيل، وأنّها في هذه الواقعة قامت بدور شكليفي ممارستها لأحد الاختصاصات الدستورية الأصيلة للبرلمان والمتمثلة في سَن القوانين.
وإن ارتكاز الاتفاقين المذكورين على الاتفاق المشؤوم ليوم 22 دجنبر 2020، لا يعني أنهما بمنأى عن النقاش أو النقد والرفض، بل إن ذلك الاتفاق كان خطأ جسيما في تاريخ بلدنا ومازال كثير من القوى الحية والفاعلين الأحرار يناضلون من أجل تصحيحه، هذا فضلا عن أن هذه الهرولة المتسارعة والمتصاعدة لجائحة التطبيع تجعل بلادنا– حسب بعض المطبعين أنفسهم- تذهب أبعد مما ذهب إليه الاتفاق المرفوض أصلا.
المفارقة الثالثة: بين جهود الدولة المغربية في الإعمار وفي دعم المرابطين والمرابطات في القدس الشريف، والتطبيع مع الكيان المحتل الذي يهدم ما يتم إعماره ويُهجّر من يتم دعمهم.
ذلك أن هذه الخطوة تأتي بعدما شهدت بلادنا لقاء بمقر وكالة بيت مال القدس الشريف بالرباط- التابعة للجنة القدس التي يرأسها العاهل المغربي- من أجل توقيع اتفاقيات مع الجمعية المغربية لإعمار فلسطين؛ وهو لقاء عرف حضور فعاليات مدنية وبرلمانية وحقوقية، وضيوفا من فلسطين، من أجل دعم جهود الإعمار في فلسطين والقدس الشري ف.تلك الجهودالتي تأتي ردًّا على سياسة تهويد القدس والاعتداءات المستمرة على المقدَّسات والسكانوالعمران المقدسي، حيث تتوجه جهود الإعمار إلى عدد من الأحياء بحارة المغاربة وحي سلوان وغيرها من الأحياء المقدسية. فلا يستقيم أن توجه الدولة جهودها ودعمها للإعمار في الوقت ذاته الذي تتفق وتتعاون فيه مع من يقوم بهدم ما يتمّ إعماره وتهجير من يتم دعمهم من المرابطين والمرابطات في القدس الشريف.
إن الجهود الكبيرة والمستمرة والنوعية لوكالة بيت مال القدس الشريف تستحق كل التنويه والإشادة، وهذه الجهود هي التي تتناسق مع موقف المغاربة وتتكامل أيضا مع موقف النواب والنائبات الذين أبوا إلاّ أن يصوتوا بالرفض على الاتفاقيتين خلال جلسة مجلس النواب المشار إليها في مطلع هذا المقال.
وإن ما عبرت عنه وكالة بيت مال القدس الشريف والهيئات المختلفة لإعمار القدس ودعم صمود المقدسيين؛ هو الموقف السليم الذي ينسجم مع التاريخ المشرف للمغاربة، وهو بحاجة لإشاعته في المجتمع وتعبئة القوى الوطنية للانخراط فيه. فالمستقبل هو للحق الشرعي والثابت للشعب الفلسطيني، أما المراهنة على الكيان الصهيوني فهي مراهنة خاسرة بدليل حقائق الخسران الماثلة أمامنا في الدول التي سبقت إلى التطبيع الاقتصادي والتعاون مع الكيان الصهيوني، خاصة دول الطّوق المحيطة بأرض فلسطين والتي لم تحقق لا تنمية ولا نهوضا ولا استقرارا ولم تَصِلْ إلى إيجاد الحل العادل للقضية الفلسطينية رغم التنازلات المتواصلة أمام الكيان الصهيوني واختراقاته للنسيج الاجتماعي والثقافي والأمني للمنطقة.
أمام كلّ هذه “المفارقات الغريبة”، لا يسع الإنسان المبصر – الذي لا يتعامى على الحقائق الواقعية ولا ينفصل عن المبادئ الراسخة – إلا أن يعود إلى رشده ملتمسا الصدق والصواب بإزالة التناقض عن مواقفه وأعماله وبالسعي إلى إيقاف جائحة التطبيع والاختراق الصهيوني، ومضاعفة جهود الدعم والنصرة لفلسطين وشعبها ومقاومتها، ودعم قيم الحق والعدل ونصرة المظلومين ومقاومة الظالمين، متوجها إلى الحق سبحانه بالدّعاء الذي أرشدَ إليهِرسولَه صلى الله عليه وسلم:﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِے مُدْخَلَ صِدْقٖ وَأَخْرِجْنِے مُخْرَجَ صِدْقٖ وَاجْعَل لِّے مِن لَّدُنكَ سُلْطَٰناٗ نَّصِيراٗۖ، وَقُلْ جَآءَاَ۬لْحَقُّ وَزَهَقَ اَ۬لْبَٰطِلُۖ إِنَّ اَ۬لْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقاٗۖ﴾.سورة الإسراء