مصطفى الرميد رجل دولة أصيل ومناضل وطني نبيل – عبد الهادي باباخويا
لكل زمان رجاله ونساؤه المميزون، الذين يوقعون في مراحله ومنطلقاته، ويبصمون على فرصه وتحدياته. ويكشفون عن دور دينامية الأفكار وتفاعل المواقف، في صناعة التاريخ وفي التأثير على سيرورته وتحولاته.
ومن هذه القامات المميزة من رموز مغربنا الحبيب، ذات الصناعة الثقيلة في الفكر والمعرفة، وذات التجربة الثرية في النضال الصادق مع المواطنين، والتأطير العميق لنخبة المجتمع، والعمل الميداني المتواصل خدمة لقضايا الوطن.. نجد الأستاذ المصطفى الرميد الدكالي، حفظه الله تعالى وأطال في عمره صحة وعافية.
أولا- سيرة مختصرة للأستاذ مصطفى الرميد:
ينتسب أستاذنا المصطفى بن أحمد بن محمد الرميد، إلى الشرفاء الأدارسة لقبيلة أولاد سي بويحيى الدكالية، المتواجدة بنواحي مدينة سيدي بنور. ولد بها سنة 1957م وفيها تلقى تعليمه الإبتدائي، في وسط اجتماعي محافظ، يغلب عليه التدين الفطري التقليدي. فأسرته متدينة تحرص على قيم الدين وشعائره وعاداته المغربية، وتسهر على تربية أبنائها على هذه الثقافة الأصيلة.
بعد حصوله على الشهادة الإبتدائية، انتقل إلى مدينة الدار البيضاء، حيث أواه عمه وزوج خالته(الحاج الحسين الرميد) بحي فرح، مدة دراسته بالإعدادي والثانوي، إلى حصوله على شهادة الباكالوريا والتحاقه بجامعة الحسن الثاني سنة 1977م، التي نال بها شهادة الإجازة في القانون سنة 1980م.
زاوج ذ. الرميد في تكوينه العلمي بين الجانبين الشرعي والقانوني، فهو أيضا من خريجي دار الحديث الحسنية، شعبة الفقه والأصول وحاصل على دبلوم الدراسات العليا بها.
توجه إلى مهنة المحاماة سنة 1984م، بعد إبعاده عن التدريس بالجامعة، حيث يحكي أنه بسبب ضغوطات أمنية، تَمّ إيقافه عن إلقاء الدروس وأُخرج من الجامعة. مما اضطر للتفكير في المحاماة بعد بحثه في مشروعيتها، وموافقة أحد كبار علماء المغرب (د.تقي الدين الهلالي) على جواز ممارستها. وقناعته بأن مهنة المحاماة هي من القطاعات الضرورية، والتي تعرف غيابا شبه كامل للإسلاميين. فولج هذه المهنة بعد أن قطع على نفسه شرطا منذ البداية، وهو الالتزام بقوله تعالى “رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين”. واستطاع أن يسخر مهنته في الدفاع عن المظلومين، وعن قضايا الرأي العام وملفات المعتقلين الإسلاميين بشتى انتماءاتهم، وفي تنظيم وتأطير عشرات المحامين وفق مبادئ العدالة الحقة وقيم الانتصار للمظلوم.
فنال بذلك عضوية المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان لولايتين متتاليتين، وترأس منتدى الكرامة لحقوق الإنسان منذ تأسيسه سنة 2006م إلى حين تعيينه وزيرا للعدل والحريات سنة 2012م.
إضافة إلى ذلك هو عضو المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي، وشارك بفعالية بالمنتدى العالمي للبرلمانيين الإسلاميين، وترأس الهيئة البرلمانية العربية لحقوق الإنسان المنبثقة عن اتحاد البرلمانات العربية.
ثانيا- مسيرته في العمل الإسلامي:
أ- البدايات الأولى في الحركة الإسلامية:
انخرط ذ.الرميد في العمل الإسلامي في سن مبكر من شبابه، حيث نشط بحركة الشبيبة الإسلامية، وكان من القيادات الشابة في تنظيمها، وقاد العمل التلاميذي بثانوية ابن المسيك (تسمى اليوم ثانوية جمال الدين المهياوي) وغيرها من المؤسسات التعليمية بالبيضاء. حيث استطاع مع زملائه في التنظيم، وبسرعة مذهلة تحقيق نجاح كبير في توسع وانتشار عمل الشبيبة بين التلاميذ والأساتذة، بفضل الجلسات التربوية التي كانوا يعقدونها ويتدارسون فيها كتب إسلامية متنوعة(سيد قطب، سعيد حوى، باقر الصدر، سعيد رمضان البوطي..)وبحافز تحدي التيار الماركسي الذي هيمن على الشباب المتمدرس. فكانوا يواجهونه بالحوار والمناظرات والأنشطة الثقافية، بهدف إقناع الشباب وتبديد الحيرة واللبس الذي استبد بهم، وأدخلهم في متاهات فكرية واختلالات مفاهيمية. وبسبب صراعه مع أقطاب الفكر الماركسي بثانوية ابن المسيك، تم إيقافه عن الدراسة لأكثر من مرة.
تأثر كثيرا برئيس حركة الشبيبة الإسلامية ذ.عبد الكريم مطيع، الذي كان يؤطرهم في مجالس خاصة، حيث يصفه ذ.الرميد أنه كان “رجلا في غاية الحيوية والتضحية والذكاء الخارق”. لكن واقعة اغتيال المناضل اليساري عمر بن جلون أدخلت حركة الشبيبة في محنة عصيبة، وفجرت التنظيم من الداخل، بسبب الخلافات بين مطيع والقيادة السداسية، وتحولها إلى نزاع وصراع وخصومة بين أفراد التنظيم. وكان موقف ذ.الرميد في البداية من هذه الفتنة القاصمة، هو رفع شعار التبين قبل أن يتبناه فصيل الشروق بالرباط. لأنه احتار في تحديد موقف واضح من تعليمات ع.الكريم مطيع واتهامات القيادة السداسية..
لكن هذا الموقف لم يستمر طويلا، إذ كان لزيارة عبدالحميد أبو النعيم له في بيته ليلا، تأثير حاسم في العودة للتنظيم والدفاع عن خط ع.الكريم مطيع في مواجهته لقيادة الستة.
ب- الخروج من الشبيبة وتكوين مجموعة “الطلبة المصلين”:
لم يستمر رجوع ذ.الرميد لتنظيم الشبيبة طويلا، إذ يكشف أستاذنا أنه بعد تعيينه في اللجنة القيادية بالدار البيضاء، اكتشف حجم النقص الموجود في المنظومة الفكرية والفقهية المؤطرة لعمل تنظيم الشبيبة. فكتب رسالة إلى قائدها ع.الكريم مطيع، يطالبه فيها بتوضيح الموقف من مجموعة قضايا ومفاهيم. فاتخذ مطيع قرارا بتهميشه وإقصائه من قيادة التنظيم، وألحقه بلجنة تعنى بقضايا البحث والمسائل العلمية.. فاضطر ذ.الرميد إلى ترك تنظيم الشبيبة بشكل حاسم، وبدأ في تأسيس عمل دعوي خاص به وبمجموعته التي أصبحت تنشط بالجامعة وأحيائها السكنية، خصوصا في المسجد والغرف السكنية. وعُرفت هذه المجموعة “بالطلبة المصلين”. وكانت قمة في النشاط والحيوية، وفتحت مسارا جديدا للدعوة في صفوف الطلبة والطالبات، أقنعت العديد منهم بأهمية الانضمام لهذا الاختيار الأصيل وسلوك طريقه. وقامت بمبادرات دعوية وأنشطة ثقافية، كان لها دور كبير في نشر الفكر الإسلامي والثقافة الدينية والزي الإسلامي بين الطالبات.
نشاط هذه المجموعة بقيادة ذ.الرميد، وتَمَيّز أفكارها ومشاريعها الدعوية، جعلها محط اهتمام حركات إسلامية أخرى، أهمها جماعة العدل والإحسان التي كان ذ.الرميد قريبا جدا من شيخها المرحوم ذ.عبد السلام ياسين، وكانت بينهما لقاءات وحوارات، وتعاون بين طلبة جماعته في بعض الأنشطة الثقافية والدعوية، وفي الترويج للكتاب الإسلامي والزي الشرعي للطالبات، وفي مواجهة استفزازات اليسار الراديكالي داخل الحرم الجامعي وتصرفاته اتجاه الرموز الدينية.
إضافة إلى ذلك، كانت للأستاذ الرميد علاقات متنوعة مع فصائل العمل الإسلامي بالمغرب، وآثر في البداية ألا ينتمي لأي منها نظرا لتجربته السابقة في الشبيبة الإسلامية، وأيضا لقناعته بأن الوضع الإسلامي لا يحتمل مزيدا من الفرقة والتشتت، بقدر ما يستوجب ضرورة تنسيق الجهود والتعاون بين الفصائل العاملة. على اعتبار أن “الصواب لا يحتكره أحد”. فكانت توصيته للإخوة في مجموعته، والذين تخرجوا من الجامعة، أن يلتحقوا بالجماعة العاملة في المدينة التي عُيِّنوا فيها، وألا يعملوا على شق الصف من خلال تأسيس جماعة جديدة.
ج- العمل في الواجهة الإعلامية ضمن تنظيم الرابطة:
بالموازاة تطورت علاقة الرميد بالمكونات التي أسست فيما بعد رابطة المستقبل الإسلامي، وأصبحت الرؤى والتصورات متقاربة بينها في العديد من القضايا والمشاريع، من هذه المشاريع “الواجهة الإعلامية”. فأسندت له سنة 1990 مهمة تأسيس جريدة، اتخذ لها إسم “جريدة السبيل”، وبعد قرار منعها من طرف السلطات، أصدر “جريدة الصحوة” التي كانت منبرا لجميع مكونات الصحوة الإسلامية بالمغرب دون تمييز، رغم أن التنظيم الذي كان وراءها هو “الرابطة”، واتخذت شعار: “قد لا نستطيع قول الحق كله، ولكننا لا نقول باطلا”. وعرفت هذه الجريدة بافتتاحياتها القوية والجريئة، والتي كانت تتناول القضايا الدستورية بأسلوب جديد، وتغطي أحداث الساحة الوطنية والدولية، وتنتقد الوضع المغربي سياسيا واجتماعيا واقتصاديا بطريقة مهنية عميقة، وبأسلوب أدبي رفيع.
ثالثا- تجربته في العمل السياسي:
في صيف 1996 تمت الوحدة الاندماجية بين الرابطة وحاتم، واختارته قيادة حركة التوحيد والإصلاح، ليكون في الواجهة السياسية من عضويته في الأمانة العامة “لحزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية” (حزب العدالة والتنمية حاليا)، تجسيدا لأطروحة الحركة في الإصلاح من داخل المؤسسات الدستورية. لينتقل ذ.الرميد بذلك إلى مرحلة جديدة في مساره بالعمل الإسلامي، تناسب توجهه الفكري وتجربته النضالية وتخصصه المهني.
فساهم بجديته وصرامته إلى جانب إخوانه وأخواته، في بناء منهج الحزب ومرجعياته وقوانينه ومؤسساته ومنظومته القيمية، وأفكاره المؤسسة وتوجهاته المرحلية، بما جعله جزءًا من الخريطة السياسية بالبلاد، وأحد أقطاب مشهدها وشؤونها، ومن الفاعلين الرئيسيين في عناوينها ومساراتها.
كما تقلد مهام سياسية متعددة، أبرزها انتخابه في مهمة نائب برلماني لثلاث ولايات متتالية، ورئاسته الكتلة النيابية للحزب لولايتين، وإشرافه على لجنة العدل والتشريع بالبرلمان لمرتين.
كان من نخبة الحزب التي قادت تجربة التدبير الحكومي، فشارك بوعي ومسؤولية في طبعها بأسلوبه في التفكير ومنهجه في التدبير، لمواجهة تحديات التسيير الحكومي هو إكراهاته اليومية..
لذلك تبقى مشاركته في التدبير الحكومي عبر ولايتين متتاليتين، أبرز مهامه السياسية التي تقلدها في مشواره. انتصر فيها لقضايا الوطن ودافع عن ثوابته ومصالحه، واهتم بآمال وانتظارات المواطنين وهمومهم وتطلعاتهم، على قدر استطاعته وما توفر له من إمكانيات..
لقد قضى ذ.الرميد في المسؤولية البرلمانية 14سنة، وفي العمل الحكومي 10سنوات، وترك بصمة ناصعة فيهما بأدائه المهني وكفاءته العالية. فتحقق خلالها للبلد وللحزب مكتسبات وإنجازات غير مسبوقة، سواء في المسار الديمقراطي أو في البناء التنموي للبلاد، أو على مستوى تنظيم مؤسسة الحزب وأدائه السياسي..
رابعا- مساهماته في ترشيد الممارسة السياسية:
لا يسع المتابع النزيه لمسيرة أستاذنا الرميد، إلا أن يشيد بقناعاته الفكرية وبعقليته التجديدية، وتحرره من مسالك التفكير التقليدية. حيث كان من أوائل القيادات الإسلامية بالمغرب التي انخرطت في المشاركة الاجتماعية الواسعة، مصطحبا معه أخلاقه وقيمه ونظافة يده ونزاهة تقديراته. كما كان أيضا من السباقين لممارسة العمل الإعلامي، لقناعته بدوره في صناعة الوعي وبناء تيار محتضن للفكرة الإصلاحية.
لكن تبقى أهم أطروحاته الفكرية التي يدافع عنها بقوة “مسألة الملكية البرلمانية”، كأفق متقدم لتطور النظام السياسي، وتنمية البناء المجتمعي للمغرب، عبر إصلاح ديمقراطي حقيقي. وقبل هذه المرحلة يدعو ذ.الرميد إلى ضرورة توفير مجموعة من الشروط، أهمها مؤسسات حزبية ومدنية وأهلية قوية، تضمن هذا الانتقال الديمقراطي، وحتى يكون للملكية البرلمانية مؤسسات وسيطة قادرة على تحمل أعباء المرحلة الجديدة.
فتقدم الشعوب سياسيا حسب ذ.الرميد، يكون بإيمانها بالديمقراطية وتمثلها لقيمها والقناعة بنتائجها، وتوافق ممارستها مع فلسفتها ومبادئها. والمغرب وفق تقدير ذ.الرميد “لايوجد في مرحلة ديمقراطية، ولا في مرحلة استبداد، بل في مرحلة انتقال ديمقراطي عسيرة”. تجعل من الملكية البرلمانية “صيرورة حتمية للديمقراطية المغربية في مرحلة الاكتمال”.
وفي هذه الصيرورة، يؤكد ذ.الرميد على أهمية دور “حزب العدالة والتنمية” في البناء الديمقراطي للبلاد، وفي التمهيد لمرحلة الملكية البرلمانية، على اعتبار تجربته الناجحة في التنظيم الداخلي لهيئاته، وإنجازاته الإيجابية في مرحلة التدبير الحكومي، وكذلك لطبيعة علاقاته المتميزة وشركائه في العمل السياسي والمدني بالبلاد، وسط عالم متربص بالتجربة المغربية الفريدة، التي يقودها ملك البلاد ويؤطرها دستور متقدم جعل من “الإختيار الديمقراطي إحدى الثوابت غير القابلة للمراجعة”.
وفي ختام هذا المقال نؤكد أن أستاذنا الكبير المصطفى الرميد، ليس مجرد وزير عابر أو برلماني فاغر أو محامي ثائر.. إنه تاريخ حافل بالإنجازات والذكريات، وشخصية استثنائية في تفكيرها العميق وخلقها الرقيق ومنهجها الدقيق، ومعلمة رسالية وَفِيّة لانتمائها ومحضنها التربوي..
الجلوس معه يُبهج الروح ويُمتع الفكر وينير الطريق، وحديثه بليغ في تحديد الإشكالات وبلورة الإجابات والإقناع بما تحقق من مشروعات..إذا دخلت بيته، فلن تغادره إلا وأنت في حالة ذهول، لأسلوبه الشيق ومنطقه السليم واستنتاجاته المتفردة.