مراتب الإحسان
يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102] ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 – 71].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [الحشر: 18 – 20].
فقد أمر الله عزَّ وجلَّ في هذه الآيات بالتقوى والمراقبة التي هي أعلى مراتب الدين ومنازله، وهي الإحسان الذي سأل عنه جبريلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سأله عن الإيمان والإسلام، فقال: أخبرني عن الإحسان؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذه حقيقة الإحسان مأخوذة من مشكاة النبوة. والإحسان مراتب ودرجات.
أولها: مرتبة المراقبة والمشاهدة والخوف من الله عزَّ وجلَّ وخشيته.
وثانيها: مرتبة الحياء من الله سبحانه وتعالى.
وثالثها: مرتبة الأنس برب العالمين.
فأما مرتبة الخوف والمراقبة فهي أن يعبد الإنسان ربه على وجه الحضور وكأنه يرى الله عزَّ وجلَّ بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، والجزاء من جنس العمل، فمن عَبَدَ الله على هذه الكيفية في الدنيا، كان جزاؤه أن ينظر إلى وجه الله الكريم عيانًا في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22 – 23].
وكما أخبر عن المحسنين فقال: ﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، وعن صهيب عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيِّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عزَّ وجلَّ )) ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾.
أما المعرضون عن الله عزَّ وجلَّ أما أهل الكفر والنفاق، فإنهم محجوبون عن رؤية الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة؛ لأنهم كانوا لا يراقبون الله عزَّ وجلَّ في الدنيا، فكان جزاؤهم على ذلك أن حُجبوا عن رؤيته في الآخرة، فلا بد للعبد أن يستحضر قرب الرب جلَّ وعلا منه وإطلاعه عليه، لأن ذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، ويوجب أيضًا النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها.
وأما المرتبة الثانية وهي مرتبة الحياء من الله عزَّ وجلَّ فهي ناتجة عن معرفة العبد بأن الله عزَّ وجلَّ يراه على أي حال، ويطلع عليه في كل أمر من أمره، فيستحيي العبد من خالقه أن يجده حيث نهاه أو يفقده حيث أمره، فيكون بذلك قد جعل الله عزَّ وجلَّ أهون الناظرين إليه. كما قال تعالى: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 108].
وقال بعض الصالحين: خفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحيي من الله على قدر قربه منك.
وقد دلّ القرآن على قرب الرب تبارك وتعالى من عباده واطلاعه عليهم في كثير من آياته، ومنها قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186].
وقال تعالى: ﴿ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ﴾ [المجادلة: 7]. وقال عزَّ وجلَّ: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16].
وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالندب إلى استحضار هذا القرب في حال العبادات كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه أو ربه بينه وبين القبلة)، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)).
قال أبو بكر المزني: من مثلك يا ابن آدم، خُلّي بينك وبين المحراب وبين الماء كلما شئت دخلت على الله عزَّ وجلَّ وليس بينك وبينه ترجمان.
والشاهد من ذلك أن من وصل إلى استحضار قرب الله عزَّ وجلَّ منه واطلاعه عليه استأنس بالله عزَّ وجلَّ واطمأن قلبه، ولم تنازعه نفسه في معصية الله والتجرؤ عليه؛ لأن هذه المراقبة يتولد عنها الحياء وهذا الحياء يمنع العبد من مفارقة المعصية وموافقة النفس والشيطان عليها.
وأما المرتبة الثالثة التي يتضمنها الإحسان فهي مرتبة الأنس بالله عزَّ وجلَّ والاطمئنان إليه والفرح بعبوديته.
قال أبو أسامة: دخلت على محمد بن النضر الحارثي فرأيته كأنه ينقبض، فقلت: كأنك تكره أن تؤتى؟ قال: أجل! فقلت: أما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس مَنْ ذكرني؟
وقيل لمالك بن مغفل وهو جالس في بيته وحده: ألا تستوحش؟ قال: أو يستوحش مع الله أحد؟!!
وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول: من لم تقرَّ عينه بك فلا قرت عينه، ومن لم يأنس بك فلا أنِس.
وقال غزوان: إني أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي.
وقال الفضيل: طوبى لمن استوحش من الناس وكان الله جليسه.
فهؤلاء القوم استأنسوا بالله عزَّ وجلَّ واطمأنوا إليه، فلم يحوجهم إلى غيره؛ بل جعل لهم من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلاء عافية.
وقد بلغ نبينا صلى الله عليه وسلم الغاية في ذلك، لأنه أكمل الخلق فما انقطع عن الناس، وما أغلق الأبواب، وما وضع الحجاب، وما سكن الجبال والكهوف ليختلي بالله عزَّ وجلَّ وإنما كان يجالس أصحابه، ويمشي في حاجة الأرملة والمسكين، ومع ذلك كان في أنس دائم بالله عزَّ وجلَّ وكان الحبل ممدودًا بينه وبين الله تبارك وتعالى قال عبد الله بن عمر: كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مئة مرة: (ربِّ اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة)، وهذا هو الكمال الحقيقي الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يقوم بحقوق العباد على أتم وجه وأكمله، ويقوم بحقوق النفس والأهل كذلك، وهو في ذلك كله لا يفتر لسانه من ذكر الله عزَّ وجلَّ كان إذا أراد الصلاة قال: (أرحنا بها يا بلال).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فلم يزل قائمًا حتى هممت بأمر سوء. قيل: ما هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأدعَهُ.
ويحدثنا حذيفة رضي الله عنه عن طول قيام النبي صلى الله عليه وسلم في الليل لله رب العالمين فيقول: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المئة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوذٍ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ثم قام طويلاً قريبًا مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبًا من قيامه.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: (أفلا أكون عبدًا شكورًا)، فهكذا حصل للنبي صلى الله عليه وسلم الكمال في كل مراتب العبودية، وهذا ما عجز عنه غيره من البشر. فقد روي عن مسلم بن عابد – عليه رحمة الله – أنه قال: لولا صلاة الجماعة ما خرجتُ من بيتي أبدًا. فأين عيادة المرضى، واتباع الجنائز، والسعي في حوائج المسلمين؟!
والشاهد من ذلك كله أنه ينبغي للعبد أن يكون متصلاً بالله عزَّ وجلَّ ذاكرًا له، مستأنسًا به تبارك وتعالى غير مستوحش من فقد الأنس والجليس. فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما سجنه أعداؤه، وأغلقوا عليه الأبواب، كان يكثر من قوله تعالى: ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13] وكان يقول: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما ذهبت فهي معي.. أنا قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي سياحة، وكان عليه رحمة الله يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
لقد أمر الله عزَّ وجلَّ بالإحسان فقال سبحانه: ﴿ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]. وقال عزَّ وجلَّ: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى ﴾ [النحل: 90].
فالله عزَّ وجلَّ أمر بالإحسان وحث عليه وبَيَّن فضائله، ولذلك فهو يحب المحسنين، ويثيبهم ويدافع عنهم، كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾ [الكهف: 30]. وكما قال سبحانه: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]. يكلؤهم، ويؤيدهم، وينصرهم على أعدائهم، ويقضي حوائجهم. قال سبحانه وتعالى في ثواب من أحسن: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 112]. ولماذا يخاف والله معه؟! ولماذا يحزن والله ناصره ومؤيده؟! ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51].
أما الذين أعرضوا عن الله، وتنكبوا الصراط المستقيم، وساروا في طريق الغي والضلال، فأولئك لهم الخزي في الدنيا والآخرة، فلا حظَّ لهم في الجنة، ولا حظَّ لهم من النظر إلى الله عزَّ وجلَّ وهذا من أعظم العقاب وأشده عليهم يوم القيامة، كما قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15].
وسوف يصطرخون يوم القيامة، ويتمنون أن لو كانوا أحسنوا في الدنيا وقدموا لأنفسهم عملاً صالحًا: ﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الزمر: 56 – 58] ولكن هيهات هيهات: ﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الأنعام: 28].
الإصلاح