مخترع آلة التطبيع – وائل قنديل
يأتي اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، بينما تبدو دولة الإمارات (العربية) غارقة حتى كتفيها فيما يمكن وصفها بأقذر قصة غرام سياسي في التاريخ، تجمعها بالكيان الصهيوني، المزروع في أرض فلسطين، قهرًا وغصبًا وإجرامًا، وتواطؤًا دوليًا.
ما يحدث يصيب الصهاينة أنفسهم بالدهشة، فما يفعله المطبّعون الجدد يتجاوز أحلام العدو، بقدر ما يتجاوز كوابيس الشقيق الفلسطيني الذي ينظر حوله في هذا اليوم، فيجد أحرار العالم في كل مكان يحتفلون باليوم العالمي للتضامن معه، فيما يُبدع حكام الإمارات في ابتكار وسائل للتضامن مع الصهيوني ضده.
تطبيع مع “إسرائيل” وتقطيع مع فلسطين.. هكذا تؤسّس حكومة أبو ظبي علاقاتها مع المعتدي والمعتدَى عليه، على نحو ينبئ بأن محبي فلسطين في الزمن القادم ستكون مهمتهم الكبرى البحث في التوصل إلى تطبيع بين العرب وفلسطين، قبل البحث في مقاومة التطبيع بين العرب والكيان الصهيوني.
في هذه الملهاة التاريخية، يتم تجريد المسمّيات من معانيها الحقيقية، وتكتسب المفردات دلالاتٍ شاذّة، ليكون مطلوبًا منك، في النهاية، الإذعان لمعاييرهم المنحرفة، فتصبح مقاومة الظلم جنونًا، وموالاة الظلم منتهى الحكمة، فتكتسب مفردة “التطبيع” دلالاتٍ أخرى، تجعلها عنوانًا للشذوذ، وليست تعبيرًا عن علاقات طبيعية بين طرفين.
فيما يخص العلاقة بين فلسطين والكيان الصهيوني، العلاقة الطبيعية تتلخص في أن حياة المواطن الفلسطيني ينبغي أن يكون محورها مقاومة المحتل الصهيوني. وبهذا المفهوم يتمنى كاتب هذه السطور إقامة علاقات طبيعية كاملة بين الوطن العربي والكيان الصهيوني، فما معنى أن تكون العلاقات طبيعية؟
مثلًا، حين تكون العلاقة بين الشخص المسروق، أو المظلوم، أو المسفوك دمه، وبين الجاني، هي الشعور بالكراهية، والرغبة في المقاومة واسترداد حقه، فإننا نكون بصدد علاقة طبيعية جدًا، ومنطقية، بل، وقبل ذلك كله، أخلاقية، وغير ذلك هو الشذوذ والانحراف، وبجملة واحدة وغير الطبيعي.
وبالنسبة لأي شخص يحترم عقله، ويتمتع بالحد الأدنى من المنطقية في التفكير، المعنى الصحيح للتطبيع هو: إما إعادة الشيء، العلاقة أو التكوين أو الشكل، إلى طبيعته الأصلية.. وإما تحويل غير الطبيعي إلى طبيعي.
فيما خص العلاقة بين العرب والكيان الصهيوني، لم تكن ثمّة علاقة طبيعية بين دول طبيعية، قبل زرع هذا الكيان كالجسم الغريب في الخريطة العربية، وبالتالي يكون المعنى الوحيد للتطبيع معه هو تحويل غير الطبيعي، والشاذ والغريب، إلى طبيعي.
وعلى ذلك، المفهوم الصحيح، الوحيد، لعلاقات طبيعية بين المعتدى عليه والعدو، أو بين الاحتلال والشعب الذي احتلت أرضه، هو المقاومة، بكل الأسلحة والوسائل، حتى ينتهي الوضع غير الطبيعي، وغير الأخلاقي، وتعود الأمور إلى طبيعتها وحالتها الأصلية التي كانت عليها قبل احتلال أرضٍ لشعب آخر بالقوة والغطرسة والإجرام.
في تتبعه سيرة مصطلح التطبيع، توصل المفكر الكبير الراحل عبد الوهاب المسيري إلى ظهور المصطلح لأول مرة في المعجم الصهيوني للإشارة إلى يهود المنفى (العالم) الذين يعدّهم الصهاينة شخصيات طفيلية شاذّة منغمسة في الأعمال الفكرية وفي الغش التجاري، ويعملون في أعمال هامشية، مثل الربا وأعمال مشينة مثل البغاء.
وقد طرحت الصهيونية نفسها أنها الحركة السياسية والاجتماعية التي ستقوم بتطبيع اليهود، أي إعادة صياغتهم بحيث يصبحون شعبًا مثل كل الشعوب.
الشاهد أننا بصدد لحظة مجنونة في التاريخ العربي، باتت معها الحاجة إلى فرض تطبيع بين العرب وأنفسهم، من جانب، وبين العرب والشعب الفلسطيني من جانب آخر، لا تقل أهميةً عن الحاجة إلى مناهضة التطبيع العربي الصهيوني.
ملحوظة: “مقالات رأي” المنشورة على موقع الإصلاح لا تعبر بالضرورة عن رأي الجهة الناشرة