مخاطر الجهر بالسوء، لماذا نجد في مجتمعنا قالات السوء تتردد ؟
يقول الله تعالى:{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}.. [النساء : 148]. يقول ابن عبد البر ـ رحمه الله :(هذه الآية نزلت في رجل تضيف قوما فلم يضيفوه، فأبيح له أن يقول فيهم إنهم لئام لا خير فيهم، ولولا منعهم له من حق الضيافة ما جاز له أن يقول فيهم ما فيهم؛ لأنها غيبة محرمة.
قال صلى الله عليه وسلم:(إذا قلت في أخيك ما فيه فقد اغتبته،وإذا قلت فيه ما ليس فيه فذلك البهتان).انتهى من” التمهيد”(18/ 287)، وقال العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله في التفسير: وقد دلت الآية على الإذن للمظلوم في جميع أنواع الجهر بالسوء من القول، وهو مخصوص بما لا يتجاوز حد التظلم فيما بينه وبين ظالمه، أو شكاية ظلمه: أن يقول له: ظلمتني، أو أنت ظالم، وأن يقول للناس: إنه ظالم، ومن ذلك الدعاء على الظالم جهرا، لأن الدعاء عليه: إعلان بظلمه، وإحالته على عدل الله تعالى، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن وذلك مخصوص بما لا يؤدي إلى القذف، فإن دلائل النهي عن القذف، وصيانة النفس من أن تتعرض لحد القذف، أو تعزير الغيبة، قائمة في الشريعة” انتهى من “التحرير والتنوير” .
إن الله سبحانه وتعالى يريد أن يحمي آذان مجتمع أهل الإيمان من (قالات السوء) أي يريد أن يحميهم من الألفاظ الرديئة؛ فالناس إنما تتكلم بما تسمع، فاللفظ الذي لا تسمعه الأذن لا تجد لسانا يتكلم به، ونجد الطفل الذي نشأ في بيت مهذب لا ينطق ألفاظا قبيحة، فإذا جاءت على لسانه ألفاظ قبيحة نتساءل: من أين جاءت هذه الألفاظ على لسان هذا الابن؟ وعندما نتقصى عن مصدر هذه الألفاظ، نعرف أن الطفل المهذب قضى بعضا من الوقت في بيئة أخرى تسربت إليه منها بعض الألفاظ الرديئة، ونعرف أنها جاءت من الشارع؛ لأن البيئة الدائمة للطفل ليس بها ألفاظ رديئة، إذن فاللغة هي بنت المحاكاة وما تسمعه الأذن يحكيه اللسان.
واللغة الواحدة فيها ألفاظ لا يتكلم بها لسان إلا إن سمعها، وإن لم يسمعها الإنسان فلن ينطق بها. والحق سبحانه وتعالى لا يريد أن تتردد قالات السوء في المجتمع الإيماني لأنها عندما تطرق آذان الناس ستعطيهم لغة رديئة؛ فكأن الحق سبحانه يقول لنا: إياكم أن تنطق ألسنتكم بأشياء لا يحبها الله، فليست خطورة المسألة أن ينطق الإنسان نفسُهُ بكلمة، ولكن الخطورة أنه إن نطق هذه الكلمة السوء سيرهق أجيالاً؛ ممن يسمع الكلمة الرديئة ويرددها، فتتوالى القدوة السيئة، ويتحمل الوزرَ الإنسانُ الذي نطق بكلمة السوء أولاً.
ثم إن قالات السوء هذه قد تكون بالحق وقد تكون بالباطل، فإن كانت في الحق مثلا فلن نستطيع أن نقول: إن كل الناس أهل سوء. فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يحميَ آذان المؤمنين من ألسنة السوء،لذلك يقول: { لايُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول} ومقابلها بالطبع هو: إن الله يحب الجهر بالحسن من القول.فالله لا يمنع الناس من قول كلمة سوء ينفس بها الإنسان عن صدره ويريح بها نفسه لكنه سبحانه يضع شرطاً لكلمة السوء هو: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ}؛ لأن الظلم هو أخذُ حق الغير بغير حق.وبما أن كل إنسان حريص على نفسه وعلى حقوقه. فإن وقع ظُلم على إنسان فملكات نفسه تغضب وتفور، فإما أن يُنَفس بما يقول عن نفسه، وإما أن يَكبت ويكتُم ذلك.فلو قال الله: {لا يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول} واكتفى بذلك، لكان كبتاً للنفس البشرية، التي قد تنفجر عند الانفعال ؛ لذلك يضع الحق تعالى الشرط وهو وقوع ظلم. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الغضب جمرة توقد في القلب ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئا فإن كان قائما فليجلس، وإن كان جالسا فلينم فإن لم يزُل ذلك فليتوضأ بالماء البارد أو يغتسل فإن النار لا يطفئها إلا الماء). (رواه البيهقي في شعب الإيمان) أي على الإنسان أن يتحرك فور إحساسه بالغضب؛ فيُغَيِّر مِنْ وَضْعْه أو يقوم إلى الصلاة بعد أن يتوضأ أو يغتسل؛ لأنه بذلك ينفس تنفيسا حركياً ليخفف من ضغط المواجيد على النفس الفاعلة؛ تماماً كما يفك إنسان صماماً عن آلة بها بخار ليخرج بعض البخار. إذن فمن وقع عليه ظلم له أن يجهر بالسوء. فهل في هذه الحالة للجهر بالسوء فائدة؟ نعم الجهر له فائدتان:
الأولى: أن ينفس الإنسان عن نفسه فلا يكبتها.
والثانية: أنه يُشيع ويُعلن أن: هذا إنسان ظالم، وبذلك يحتاط الناس في تعاملهم معه. وأيضا حتى لا يخدع الظالم نفسه ويظن أنه بمنجاة عن سيئاته، فلو ستر كل إنسان الظلم الذي وقع عليه لاستشرى الظلم في عمل السيئات.
ولكن إياك أيها المؤمن ـ ذكرا كنت أو أنثى ـ أن تتوسع في فهم معنى كلمة (ظُلِم) هذه؛ بل عليك أن تقيس الأمر بمقياس دقيق على قدر ما وقع عليك من ظلم. قال تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ}.. [البقرة: 194]، إذن فالحق سبحانه وتعالى لا يعطينا في الاستثناء إلا على قدر الضرورة، فإياك أيها المظلوم أن تزيد على هذه الضرورة، ثم إن الذي ينالك ممن ظلمك إما فعل وإما قول فإن كان ظلمك بقول فالله سميع، وإنْ كان ظلمك بفعل فالله عليم، هذا وإن الحق سبحانه وضع الضوابط الإيمانية والنفسية فأزاح الكبت وفي الوقت نفسه لم يقفل باب الطموح الإيماني.
لقد سمح للعبد أن يجهر بالسوء إن وقع عليه ظلم لكن الأفضل ألا يجهر بل يكظم غيظه ويعفو بل ويحسن كذلك إلى المسيء إليه ( و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و الله يحب المحسنين) ألا ترى الله سبحانه يقول : {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.. [فصلت: 34]. فإن أباح الله لك أن تجهر بالسوء من القول إذا ظلمك أحد، فقد ندبك ألا تجهر بل تعفو عنه، وغالب الظن أن صاحب السوء يستخزي ويعرف أن هناك أناسا أكرم منه في الخُلُق،. ويلوم نفسه ، فإذا دفع الإنسانُ المعتدَى عليه بالتي هي أحسن وعفا وأصلح فقد ينصلح حال المُعتدي فالله قال: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، فإذا تمادى من بعد ذلك فعلى الإنسان أن يعرف أن الله لا يكذب أبداً، ولابد أن الخلل في سلوكك يا من تظن أنك دفعت بالتي هي أحسن فقد تكون قلتها بلهجة من التعالي: سأعفو عنك، ومثل هذا السلوك المتكبر لا يجعل أحداً وليًّا حميمًا، وأما لماذا قال سبحانه: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]؟.فذلك حتى لا يستشرى المعتدي، فهناك إنسان إذا تركناه مرة ومرة يستشري، لكن إذا ما أوقفناه عند حده فهو يسكت، وبذلك نرحم المجتمع من استشراء الفساد.
ثم يثور سؤال: من القادر على تحقيق المثلية بعدالة (فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ )؟ فعلى سبيل المثال إنسان ضرب إنساناً آخر صفعة على الوجه، فبأية قوةِ دفعٍ قد ضرب؟ وفي أي مكان ضرب؟ ولذلك نجد أن رد العدوان على درجة المثلية المتساوية أمر صعب. ومادام المأمور به أن يعتدي بمثل ما اعتدى به عليه فقط؛ ولن يستطيع تحقيق المثلية، ولربما زاد الأمر على المثلية؛ وبعد أن كان معتدَى عليه صار هو المعتدِي، فلذلك يكون العفو أقرب وأسلم.
ذ. سعيد منقار بنيس