محمد يتيم يكتب: المرجعية بين تصورين
رغم أن اصطلاح المرجعية مصطلح حديث نسبيا إلا أنه يوجد في القرآن، وفي الفكر والتاريخ الإسلاميين ما يدل عليه ويشهد له من حيث المفهوم والمضمون. المرجعية تفيد الصدور عن مقررات الكتاب والسنة أحكاما ومقاصد ومنهجا وأخلاقا وقيما .. واتخاذها مرجعا ومصدرا لمعايير التفكير ومعاير السلوك.
والتأكيد على المرجعية بهذا المعنى ورد في عدة آيات من القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى :” يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ۚذلك خير وأحسن تأويلا ” ( سورة النساء – الآية 59)
وفي السنة النبوية، ورد في حديث معاذ حين بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فسأله : كيف تقضي إذا عرض لك قضاء”، قــال ” أقضـي بكتاب الله “، فسأله الرسول مرة آخرى ” فإن لم تجد في كتاب الله”، فأجابه معاذ ابن جبل “فبسنة رسول الله”، فعاود صلى الله عليه وسلم وسأله “فإن لم تجد في سنة رسول الله، ولا في كتاب الله؟”، فأسرع معاء ابن جبل مجيبا “اجتهد رأيي ” فضرب رسول الله صدره قائلا “الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله”.
والمرجعية أيضا استنباط أحكام الشرع اعتبارا لمقاصد الشريعة ، استناط يقوم به ذو الأهلية ممن لهم القدرة العلمية والادوات المنهجية اللازمة لذلك. والمرجعية رد الأمور المختلف أو المتنازع حولها إلى الكتاب والسنة ” ” فإن اختلفتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول “. والمرجعية رد الأمور الملتبسة إلى أهلها والهئيات المؤهلة لاستنباطها كما في قوله تعالى :” وإذا جاءهم أمر من الأمن والخوف اذاعوا به ولو ردوه الى الرسول وأولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منها ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ” (النساء – الآية 83)
و قد أولى علماء الأمة مكانة كبيرة للإجماع باعتباره من أهم الأدلة الشرعية، كما أولوا أهمية خاصة لاجتهاد، و” قول ” “الجمهور ” وهو اعتبار لقاعدة الأغلبية في المجال الفقهي كما ذهب لذلك الدكتورأحمد الريسوني في كتابة ” نظرية التقريب والتغليب في العلوم الإنسانية “.
وظهر حديثا توجه محمود إلى ما يسمى بـ” الاجتهاد الجماعي ” أو” مأسسة الاجتهاد ” الذي هو ” اتفاق أغلبية المجتهدين في نطاق مجمع أو هيئة أو مؤسسة شرعية، ينظمها ولي الأمر في دولة إسلامية على حكم شرعي عملي، لم يرد به نص قطعي الثبوت والدلالة بعد بذل غاية الجهد فيما بينهم في البحث والتشاور” . ويتضح من خلال ذلك أن التوجه في الأمة هو التعاون والعمل الجماعي .. والحرص عليه وعلى أسبابه وإنما ” يأكل الذئب من الغنم القاصية “.
ويعضد هذا التوجه استنكار الإسلام في نصوصه المرجعيه وفي روحه ومقاصده للفردانية، والاعتداد بالرأي والانتصار لـ ” أنا ” فالمسلم قوي بأخيه ضعيف بنفسه . والإعجاب بالرأي مذموم وهو معصية الشيطان الكبرى حين اغتر وتكبر قائلا :” أنا خير منه “. غير أنه في مقابل هذا التصور الذي بلوره أهل السنة أي الاجتهاد الجماعي المنظم الذي من أعظم نتائجه ” الاجماع ” أو الاجتهاد الراجح في ذاته أو الذي يرجحه الإمام حيث أن اعتماد الامام لاجتهاد ما يرفع الخلاف.
و في المقابل تبلور تصور آخر للمرجعية يجعلها نيابة عن ” الإمام ” في فترة غيبته وهو ما يعرف بـ” ولاية الفقيه ” أو في العارف الموصول ..!! ويبدو الفرق واضحا بين تصور يجعل الاجتهاد عملا جماعيا مؤسساتيا كما تم بيانه ، وبين ” المرجعية ” التي تتجسد في شخص أو ولي فقيه ينوب عن الإمام الغائب في انتظار أن ” يعجل الله بعودته” .. أو ولي ” مقرب ” أو ” محدث ” أو وارث لسر من الأسرار كما هو عند بعص الصوفية الذين يحدثون ويعرفون ب” السند المتصل “.
فرق بين مرجعية الإمام والمأموم فيها محكومان ومحتكمان إليها وهي حاكمة عليهما سواء بسواء، وبين تصور تتماهي فيها المرجعية بالقائد أو الفقيه أو العالم .. والتجربة البشرية سواء في التاريخ الإسلامي أو التاريخ المعاصر تتجه إلى ترجيح فكرة التشاركية و العيش المشترك، وتكشف أن زمن الولي أو ” وارث السر ” بالسند المتصل فكرة قد عفا عليها الزمن .. تتجه إلى أن العمل الجماعي المؤسساتي أقرب إلى ترشيد الاختيارات والاحتهادات، وأنه حتى لو ثبتت مرجوحية اجتهاد جماعي معين فإن تلك المرجوحية، ينبغي أن تتحقق من خلال ترجيح اجتهاد جماعي آخر مثله أو أقوى منه لأن البركة دوما مع الجماعة، وأن هناك معصوما واحدا في هذه الأمة هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه العصمة إنما هي عصمة من الله فيما بلغ عن الله ؛ وأنه فيما دون الوحي إنما هو بشر يجتهد، وقد يكون اجتهاده مرجوحا كما وقع في اختياره صلى الله عليه وسلم لموقع معركة بدر قبل أن يشير عليه الصحابة بموقع أفضل، وأنه قد يحكم بالظاهر حين يختصم الناس إليه ويقضي لأحد المتخاصمين بغير ما يستحقه أي بحق أخيه بسبب لحن أحد الخصمين في الحجة ( تصرفاته بالقضاء ).
المرجعية إذن هي كتاب الله وسنة رسول الله فيما بلغ عن الله .. والمرجعية هي فيما قضى الله ورسوله دينا يتعبد به، وأحكاما قطعية أو فيما أجمع عليه علماء المسلمين المعتبرين وما استنبطوه وفق أدوات وقواعد الاستنباط المعتبرة .. والله أعلى وأعلم !!