محمد يتيم يكتب: آفات العمل الجماعي ليست خاصة بالمجال السياسي
أوصى بعض الفضلاء من العلماء المشتغلين بالسياسة أن تكون لهم خلوات مكثفة لتعهد إيمانهم، وذلك للحاجة لزاد أيماني متواصل بسبب ما يخالطون من أوضاع وما يواجهونه من مطبات ومغريات .. غير أن هذه النصيحة لا تخص في نظري المشتغلين بالسياسة، وينبغي أن لا تحمل وتفهم وكأن العطب مرتبط بالسياسة والمشتغلين بالسياسة، بل تشمل جميع الذين يتصدون للعمل الإسلامي في واجهاته المختلفة بما في ذلك الدعاة والخطباء، والقائمون على غيرها من الواجهات كالإعلام والثقافة والعمل الخيري والاجتماعي وغيرها .
إن الآفات التي تتسرب للعمل السياسي يمكن أن تتسرب لغيره من مجالات العمل الاسلامي، كما يمكن أن تصيب ايضا للمشتغلين بالدعوة والتربية واهل الدعوة والتربية والخطابة. فالفقهاء والعلماء والمربون والوعاظ ليسوا بمنأى عن التطلع والحسد والغيبة في بعضهم البعض، والصراع فيما بينهم على المواقع والمناصب، وليسوا بمنأى عن أمراض القلوب والنفوس كالحسد والغيرة والغيبة، وأمراض السلوك من قبيل الكيد بعضهم لبعض وحسد بعضهم لبعض وغيبة بعضهم في بعض.. وهذا حاصل ومشاهد في عدد من المؤسيات العلمائية والتربوية والعلمية في عدد من الدول الاسلامية والمؤسسات الخيرية والجمعيات الثقافية .
ويبدو أن المسألة ليست مسالة اشتغال بالسياسة وإن كان المشتغلون بها معرضون أكثر بحكم تداخل المصالح والمفاسد فيها، وأن الترجيح فيها معترك صعب ومرتقى ضنك وأنه مزلة أقدام ومضلة أفهام. لكن هذا الوصف ينطبق على كل من تصدى للعمل العام بصفة عامة، وليس فقط على المشتغلين بالمجال السياسي، أي السياسة بالمعنى التدبيري لشؤون الحكومات والدول واجتهادات الاحزاب في ذلك..
بل إن الاشتغال بحظوظ النفس والسقوط في حبالها قد يقع في مجالات من العمل بعيدة عن السياسة بمعنى التدبير اليومي لشؤون الحكم، كما أن الاشتغال بحظوظ النفس ليس مرتبطا فقط بمن يتصدون للسياسة، بل قد يظهر في مجالات تبدو بعيدة عن السياسة وهو ما بسط فيه ابن الجوزي في كتاب “تلبيس إبليس” حيث فصل في تلبيسه على عدد من الفئات منهم الزهاد والعلماء والفقهاء والمتصوفة وهلم جرا ..
وفي المقابل، فإن الصلاح والإصلاح في السياسة من الأعمال المرجو ثوابها وفضلها، فإقامة العدل من قبل الحاكم أو الأمير أوالسياسي له شأن كبير كما يدل على ذلك حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، والذي جعل في مقدمتهم “إمام عادل ” ولا عدل مع الرعية إلا بعدل مع النفس والعكس صحيح .
المسألة الثانية، أن الاستبداد ( الفساد والإفساد السياسي) كما يبسط ذلك الكواكبي، ليس مقتصرا على المجال السياسي بل إن له تحليات في مجالات اخرى . وقد تكلم الكواكبي عن الاستبداد العلمي وعن الاستبداد الديني وعن الاستبداد الاجتماعي والاستبداد الأسري وهلم جرا .. وبين العلاقة بين الاستبداد النازل من الحكام تجاه الرعية ومن الرعية تجاه الحكام ( استبداد القرين بالقرين).
وتبقى هناك قصية أساسية لها صلة بتحصين المجتمعات والجماعات والأحزاب والحركات والجمعيات الدينية والثقافية، وهي قاعدة العمل المؤسساتي وأعمال قيم الشورى الملزمة وثقافة الشورى، والديمقراطية الداخلية وثقافتها وآليات ومساطرها، والتحاكم إلى قرار المؤسسات واعتماد قاعدة ” الرأي حر والقرار ملزم ” وهي قاعدة يتعين أن لا تحابي أحدا مهما علا قدره العلمي، ومهما كان تاريخ بلائه في العمل والنضال من أجل الاصلاح.
ومعلوم أن البلاد الغربية ودولها لم تستنفر أو تتفرغ للتنمية الاقتصادية والاجتماعية إلا حين فعَّلت الديموقراطية ومشاركة المواطنين، ونزَّلوا تلك الديمقراطية من خلال آليات تعارفوا عليها، ووضعوها في قوانين ومساطر وحولوها إلى ثقافة سارية ، ففسحوا المجال للتداول في كل كبيرة وصغيرة، واستوى في ذلك التداول في تدبير شؤون التنظيمات الحزبية وتدبير شؤون الدولة والمجتمع الكبير والصغير، ووضعوا أليات للتداول على المسؤوليات وتداول الأطروحات والاجتهادات، والرؤى وآليات التدافع بينها والحكم، وجعلوا ذلك سبيلا للتسديد والتقريب مع استعداد للقبول بسيادة الاجتهاد الآخر في حالة حيازته على الأغلبية، وتمكين أصحابه من تدبير شؤون الدولة والمدينة والبلدية. فاستقرت دولهم وتنظيماتهم، وانتقلت السلطة والمسؤولية فيما بين أحزابهم. بسلاسة بين الأجيال وبين الاجتهادات المختلفة ..وتوارى المسؤولون السابقون الى الخلف او انتقلوا لمواقع مختلفة في ظل مشروع جامع .
وتبعا لذلك، فكما أن على المشتغلين بالسياسة أن يخصصوا فقرات من حياتهم لتعهد إيمانهم، فإن غيرهم من الدعاة المشتغلين بالعمل الدعوي والتربوي والثقافي والوعظ والإرشاد أن تكون لهم كذلك لحظات لتعهد الإيمان وتمحيصه، مما قد يلابسه من حظوظ النفس التي لا يخلو منها متصد للعمل العام سواء كان وعظيا أو ثقافيا أو سياسيا أو كان جهدا بالمال والنفس والوقت. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش وكم من قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته.