مجتمع التكافل والإحسان
أرشد الله سبحانه وتعالى المؤمنين إلى تكوين مجتمع لا جوع فيه ولا خوف، مجتمع الإحسان والتكافل، يقول الله عز وجل: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴾، فهذه الآية توحي بأن الإحسان هو السلوك المطلوب في علاقة كل فرد من أفراد المجتمع بغيره؛ فالإحسان إلى الوالدين، والإحسان إلى ذوي القربى، والإحسان إلى اليتامى والمساكين، والإحسان إلى الجار ذي القربى والجار الجُنب والصاحب بالجنب، والإحسان إلى ابن السبيل والإحسان إلى ملك اليمين.
والإحسان وصف عظيم، وهو أرقى أنواع السلوك عرفته البشرية، فهو حب ونصيحة، وبر ورحمة، وكرم وتواضع، ورعاية وكلمة طيبة، ومد يد العون في قضاء الحوائج ودفع النوائب.
والقاعدة في الإحسان هي: ﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾، وهذه القاعدة القرآنية تمنح للإحسان غاية لا يدرك منتهاها، فأنى لأحد – كائنا من كان – أن يحسن كما أحسن الله إليه، إلا أن تلك الغاية تحفز أهل الهمم العالية إلى نيل المعالي، فلا يرضون بالدون، والقليل من الإحسان.
والإحسان له جانبان، فالإحسان في جانب المُحسِن يقتضي أن يكون لائقا لما يملكه المحسن، فالندى من البحر للظمآن ليس من الكرم في شيء، وإنما الكرم اللائق بالبحر هو السحاب الثقال والأمطار الغزيرة التي تُحيي الأرض، وتفيض بها العيون والأنهار، كما أن مقتضى الإحسان في جانب المُحسِن إليه أن يكون على قدْر حاجته ومصيبته، فمن كانت مصيبته أعظم يكون قدْر الإحسان إليه أكبر؛ لكي يرتقي إلى مستوى المعيشة العام، ولا يبقى طوال حياته على خطِّ الفقر ينتظِر لقمة العيش واليسير من العون من هنا وهناك.
شاهد: تعزيز قيم التضامن لمواجهة تداعيات وباء كورونا : درس بالريفية مع الأخ نجيب طريجي |
وميزة الإحسان أنه يعطي المحسنَ إحساسا من السعادة لا يوصف، ربما يفوق أضعاف ما يشعر به من نجا من مصيبة كبيرة بسبب ذلك الإحسان، فالناجي من المصيبة يشعر بأنه وجد حياة جديدة، بينما المُحسِن يشعر بأنه وجد لحياته معنى جديدًا، ويشعر حينما يُحسِن إلى الآخرين بأنه يعيش لنفسه حياة مضاعَفة، ولذلك من ذاق طعمَ الإحسان تصبح المبادرة إليه ديدنه، يتلذَّذ به، ولا يفوت فرصةً تسنَح له.
لقد حث الإسلام على التكافل الاجتماعي في الإسلام، باعتباره التقعيد النظري الرحيم للأسس الصالحة لقيام المجتمع البشري المتماسك، الذي لا تقوم العلاقة فيه على أساس القواعد التشريعية فحسب بل قد توجب بعض الحالات الارتفاعَ فوق هذه القواعد؛ وذلك مثلما فعل الأنصار مع المهاجرين عندما شاركوهم في دورهم وأموالهم، بل وقد عرض الأنصار على إخوانهم المهاجرين أن يقتسِموا معهم هذه الأموال والعقارات مناصفة، فهذا نوع مِن الإيثار والتكافل لم يجعله الشرع فرضا، وتركه للمستوى الأخلاقي للمسلمين في ظل معاني الرحمة والأخوة الإسلامية.
ومن العجيب أن الأنصار لم يعطوا ما أعطوا استشعارا منهم بواجب شرعي تمليه عليهم قواعد تشريعية؛ وإنما فعلوه بنوع غريب مِن الحب، ودرجة كبيرة من الإيثار، خالية تماما مِن مشاعر الأثرة والشح؛ قال تعالى في تصوير هذه الحالة الفريدة في التاريخ: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾.
ومن السياق السابق نعلم أن التعامل مع الجوانب الاجتماعية في الإسلام يقف فوق أرضية عقدية وفكرية ونفسية وأخلاقية معينة، وأن المسلم يعالج هذه القضايا في إطار مفاهيمه الإيمانية الكلية؛ فهو لا يقوم بها لأنها أوامر قانونية، ولا قضايا مصلحية عامة، يتبادل فيها الفرد والمجتمع الخدمات بطريقة جدلية تبادُلية، وقد تنتهي هذه العلاقة بمجرد الشعور بانقضاء المصلَحة، أو بالتحايل على القانون؛ فالأصل العقدي والعبادي للقضايا الاجتماعية في الإسلام، والمنهج الذي يجعلها جزءا من كل لا تنفصل عنه – هذا الأصل وهذا المنهج يجعلان للتكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم قسمات خاصة ينفرد بها عن كل النظريات الاجتماعية التي ظهرت في القديم والحديث.
إن الفرد في مجتمع، يكون إما في حاجة ماسة إلى دفع الضرر الطارئ، وهم بعض أفراد المجتمع، ومنهم اليتامى والمساكين، ووضعهم يتطلب كفالتهم الفورية ممن يستطيع من أفراد المجتمع، وإما في حاجة إلى تأمين ما على دفع الأضرار المحتمَلة في المستقبل، وهي حاجة كل أفراد المجتمع، غنيهم وفقيرهم، صحيحهم ومريضهم، قويهم وضعيفهم، حيث كل واحد من أفراد المجتمع ومهما كان في عيش رغيد وثروة كبيرة، فإنه يخاف في نفسه من تقلبات الدهر ونوائب الأيام، وهذا الخوف يكمن في كل شخص، وهو خوف طبيعي يتفاوت في القدرِ عند كل إنسان، وكثير من الهيئات تقوم بتفخيم وتهويل، ومن ثم متاجرة ذلك الخوف، فيدخل الإنسان الخائف مع مؤسسات تستغل خوفه في مقامرة مصحوبة بالشح.
وتعالج آية الإحسان شتى أشكال الخوف الموجود بين أفراد المجتمع، فهناك – على سبيل المثال لا الحصر – من يخاف من العجز والضعف في شيخوخته، فأمرت الآية الولد بالإحسان إلى والديه، وهناك من يخاف على ولده الصغير فيما إذا داهمته المنية، فأمرت جميع أفراد المجتمع بالإحسان إلى اليتامى، وهناك من يخاف على نفسه من الفقر، فطمأنته الآية بأنه لا داعي للخوف؛ فإنه يعيش في مجتمع مأمور بالإحسان إلى المساكين، وهناك المسافر الغريب آن له ألا يخشى شيئا في غربته؛ فإنه في مجتمع آمن شعاره الإحسان إلى الجميع، ومنهم ابن السبيل، وهكذا يعيش الجميع في أمن من الخوف، أًيا كان ذلك الخوف.
إن التشريع القرآني قريب إلى الفطرة وقابل للتطبيق، فلم يكتف بالتوجيه العام إلى كافة أفراد المجتمع بالإحسان إلى كل فرد يستحق الإحسان؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى إهمال وحرمان في حق الكثيرين، وإنما حدد نطاق المسؤولية، وحدد نِطاق الرعاية؛ لتشمل المسؤولية جميع مَن يستطيع تحمل المسؤولية، ولتتناول الرعاية جميع من يستحق الرعاية، فإن كل فرد في المجتمع له ذوو القربى وله الجيران وله أصحاب بالجنب، يستطيع إحصاءهم والتعرف على أحوالهم لقربه منهم، وهو بطبيعته يميل إلى الإحسان إليهم لما بينه وبين هؤلاء من صِلة وقرب وقَرابة، وهكذا كل من هؤلاء يؤدي ما عليه من واجب الإحسان، وكل يستفيد بما على غيره ممن يشاركه في هذا الوصف من واجب الإحسان، فكل يُحسِن وكل يُحسَن إليه، ويعيش الجميع في ظلال التوجيهات الربانية، من غير جوع ولا خوف ولا شعور بالوحدة في مواجهة الظروف الصعبة، بل في حصنٍ منيع من الإحسان والتكافل، مكون من ثلاثة أسوار، سور ذوي القربى وسور الجار وسور الصاحب بالجنب، فلتهجر البشرية الشح والأنانية والانعزالية، والتي هي من رواسب المادية الحديثة، ولتعد إلى ذلك المجتمع الراقي، مجتمع الإحسان والتكافل؛ ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾.
الإصلاح