مؤرخ يهودي: تحويل المؤسسات اليهودية إلى صهيونية عمل منظم تم على مدى قرن كامل
“كنت تلميذ في المدرسة وتعلمت أن الأرض كانت فارغة، ولا يوجد فلسطيني ولا شيء وأن هذه الأرض لليهود من زمان، فعدنا إلى أرضنا وعندنا الحق ونحن أصحاب الوطن”.
و “هكذا هي الرواية الصهيونية العادية بدون أي فرصة لأي حكاية أخرى أو وجهة نظر مختلفة، لا يوجد حق في طرح أسئلة؟ إذا كانت هذه أرضنا لماذا نأتيها الآن؟ لماذا نحن لسنا فيها من أعوام طويلة؟”
بهذه الكلمات بدأ “إيلان بابيه” المؤرخ الإسرائيلي المناهض للصهيونية، حديثه في برنامج “المقابلة” ضيفا على الإعلامي علي الظفيري على قناة الجزيرة بتاريخ 30 أكتوبر 2024، حول الرواية الصهيونية عن أرض فلسطين منذ البداية، وكيف أنها كانت الرواية الوحيدة المتداولة حينها، وأن عقله طرح الكثير من الأسئلة التي لم يكن يجد لها إجابات مقنعة حينها، حتى كبر ودرس في الجامعة وبدا يرى الأمور على حقيقتها.
وكشف إيلان أن غالبية اليهود في العالم ليسوا صهاينة، و أن تحويل المؤسسات اليهودية إلى صهيونية عمل منظم تم على مدى قرن كامل، مؤكدا أنه يهودي ضد الصهيونية، أي ضد العنصرية وضد الاستعمار الاستيطاني وضد التطهير العرقي.
وفي السياق نفسه، أوضح أنه يمكن أن تكون يهوديا وأن لا تكون صهيونيا، ويمكن أن تكون صهيونيا من دون أن تكون يهوديا، مشيرا أن أهم مجموعة تدعم إسرائيل اليوم في أمريكا ليست اليهود بل مسيحيون صهاينة، كما يمكن أن تكون يهوديا من دون أن تكون صهيونيا ويمكن أن تكون صهيونيا من غير أن تدين باليهودية، فالصهيونية إيدولوجية واليهودية عقيدة.
وقال إيلان، لأول مرة في نهاية عام المدرسة بدأت الأسئلة، سألت العائلة لماذا نعيش في هذه البيوت المهدومة؟ يعني في حيفا كانت بيوت مهدومة، و قال المعلمون لي: هؤلاء من الماضي، وأنه عاش كمواطن مثالي بدون أي علاقة معنية مع أي فلسطيني أو الحكاية الفلسطينية حتى وصل للجامعة.
ولم يبدأ إيلان يطرح أسئلة إلا بعد الحرب على لبنان سنة 1982، حيث كان يدرس في جامعة أوكسفورد، وتساءل لماذا هذه الحرب؟ لماذا هذا الغزو؟ لماذا هذا العنف؟ ولما قابل أبي شلوني أشار له أن 1982 كانت نقطة مهمة، لكنه سأل بعد ذلك عن 1967 إلى أن يصل إلى1956.
وذكر المتحدث أن الصهاينة يروون تاريخ فلسطين من خلال الخريطة، وهكذا فإن الخريطة الأولى ستكون فلسطين في زمن الكتاب المقدس والخريطة الثانية فلسطين في زمن الرومان، أما الخريطة الثالثة فلسطين في زمن الصليبيين، في حين ستكون الخريطة الرابعة فلسطين عند وصول أول صهيوني إليها في أواخر القرن التاسع عشر، وهو ما يعني أنه خلال الفترة الواقعة بين العصر الروماني وقيام دولة الاحتلال الإسرائيلي لم يطرأ على فلسطين أي تغيير.
وأوضح إيلان أن المشروع الصهيوني بدأ كمشروع مسيحي، وحتى قبل أن يعتقد اليهود أن الحل الوحيد للتخلص من معاداة السامية في أوروبا هو إقامة دولة لليهود في فلسطين قبل ذلك بوقت طويل، اعتقد عدد لا بأس به من المسيحيين الإنجيليين أنه يجب أن يعود اليهود إلى أرض فلسطين، لأن ذلك سوف يعيد يسوع المسيح ليحيي الأموات، ومن ثم فإقامة “دولة اليهود” بفلسطين واجب ديني ، مشيرا إلى أنه كان هذا أيضا معادي للسامية لأنهم أرادوا بهذا الادعاء التخلص من اليهود.
وبسبب الدعم المسيحي للفكرة كانت المنح الدراسية المسيحية والمنح الدراسية الصهيونية تتكامل فيما بينها لخلق فكرة أن فلسطين كانت أرضا فارغة.
وذكر ايلان أن هناك ثلاثة طرق للوصول إلى ترسيخ هذا الادعاء؛ أولا ألا يعامل الفلسطينيون بنفس طريقة نظرائهم الأوروبيين، والطريقة الثانية هي ازدراء ثقافة العرب، واعتبارها غير ذات أهمية ولا تستحق الالتفات إليها، وبالتالي تجاهلها واعتبارها غير موجودة، أما الطريقة الثالثة فتأتي من خلال الأعمال الأكاديمية كالأفلام والخيال والشعر والأهم من ذلك الصور حيث تظهر صورة مزيفة عن فلسطين تبدو فيها وكأنها أرض فارغة.
وأكد ايلان أن المشروع الصهيوني اعتبر في حينه حلا لمشكلة أوروبا التي اعتبرت اليهودية ديانة غريبة، وأن اليهود كأشخاص لا يستطيعون الاندماج بشكل كامل في مجتمعاتهم، مشيرا إلى أن الصهيونية عندما بدأت لم يكن ينظر إليها على أنها حل لليهود الذين كانوا يعيشون في أمريكا أو اليهود الذين كانوا يعيشون في بريطانيا أو حتى اليهود الذين كانوا يعيشون في ألمانيا، بل كان ينظر إليها على أنها حل لمجموعة معينة من اليهود الذين كانوا يعيشون في أوروبا الشرقية، كما أنه لم تكن المشكلة القديمة المتمثلة في يهود أوروبا الشرقية، هي ما يؤرق الأوروبيين بل كانت المشكلة هي أن أوروبا ارتكبت إبادة جماعية ضد اليهود والحل السهل تمثل في التعويض عن الإبادة الجماعية لليهود بالسماح للحركة الصهيونية باستعمار فلسطين، ولذلك لم يكن مستغربا أن تكون “إسرائيل” هي الدولة الأولى التي اعترفت بألمانيا الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية.
وكشف المتحدث أنه قبل أن تأتي الصهيونية الأولى إلى فلسطين عام 1882 كان لفلسطين مجتمع بشري حقيقي؛ نابض بالحياة مع نخبة ثقافية ونخبة سياسية، مرتبطة ارتباطا طبيعيا ببلاد الشام، وكان لديهم مراكز حضرية مهمة للغاية في يافا وعكا والقدس وفي أماكن أخرى. وكان الناس في القرى يعيشون معا مسيحيين ومسلمين مع أقلية يهودية صغيرة، لذلك يمكنك القول أنه قبل وصول الصهيونية إلى فلسطين لم تكن فلسطين مختلفة عن لبنان والعراق والأردن وأي دولة عربية، وكانت كل بلاد الشام تمر بعملية تحديث وبروز للهوية الوطنية.
وزاد، إذا أخرجنا الصهيونية من قصة فلسطين سنحصل على قصة دولة عربية لا تختلف عن سوريا أو لبنان أو الأردن أو العراق أو أي دولة عربية، وبالتالي لم تكن فلسطين فارغة بل كانت مليئة بالناس العاديين والموهوبين والمثقفين ولديهم القضايا ذاتها التي يواجهها أي مجتمع آخر.
وأكد إيلان أن الصهيونية كانت حركة استعمارية استيطانية نموذجية أو ما نطلق عليها باللغة العربية استعمار استيطاني، الذي يختلف قليلا عن الاستعمار العادي؛ وهذا مطابق لطريقة التي بنيت بها الولايات المتحدة، وكندا وأستراليا ونيوزلندا وجنوب إفريقيا حيث يوجد مستوطنون بيض؛ لا ينتمون إلى دولة واحدة، وإنما ينتمون إلى كثير من الدول، لكنهم يعتقدون أن هذا هو وطنهم الجديد، وليس لديهم أي مكان آخر يذهبون إليه ولذلك كان هذا نموذجا مثاليا للحركة الصهيونية.
وقال إيلان “نحن كمؤرخين نعلم أنهم (الصهاينة) ناقشوا بالفعل عملية التطهير العرقي، ولكنهم لم يتمكنوا من القيام بذلك في ظل الحكم العثماني، الذي استمر حتى عام 1918 ولا حتى في ظل الحكم البريطاني الذي استمر حتى عام 1948، لكنهم أعدوا أنفسهم جيدا للحظة بالوسائل والخطط الاستراتيجية، حيث قررت قيادة الحركة الصهيونية تنفيذ عمليات التطهير العرقي في البداية على ثلاث قرى من قبل القوات اليهودية بوجود البريطانيين الذين التزموا الصمت، في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا لا تزال مسؤولة عن تطبيق القانون وحفظ النظام في فلسطين.
وأكد إيلان أن الواقع والحقيقة مختلفة عما تعلمه في المدرسة، وأنه كمؤرخ علم ذلك من الأرشيف البريطاني الذي يروي القصة كما كانت إلى غاية 15 من ماي عام 1948، وتصف الوثائق الموجودة في الأرشيف البريطاني بدقة شديدة الطريقة، التي دخلت بها القوات اليهودية أو القوات الصهيونية حيفا، وكيف تم طرد الناس إلى الميناء وقصفهم حتى يهربوا، وفي يافا فعلوا الشيء نفسه وفي طبرية وضعوا الناس في حافلات، كما قصفوا الناس في بيسان وأجبروهم على الرحيل …
واطلع إيلان على كثير من المحفوظات والأرشيف “الإسرائيلي” والأرشيف الأمريكي والأهم من ذلك أرشيف الأمم المتحدة، وذلك لأن كثيرا من موظفي الأمم المتحدة الذين كانوا شهودا على الأرض أخبروا مقر الأمم المتحدة بما رأوه بأعينهم على أرض الواقع.
وأوضح المتحدث أنه كان مهم جدا بالنسبة للحركة الصهيونية اختبار رد فعل العالم على التطهير العرقي، خاصة مع وجود صحفيين من أمريكا وبريطانيا، وكان هناك مبعوثين من الأمم المتحدة، مشيرا إلى أن العالم عرف ما كان يحدث في فلسطين من الصحف (نيويورك تايمز) ومحطة الإذاعة ومحطتنا الإذاعية، وكذلك المحطات الإذاعية الأخرى، إلا أن الغرب وأمريكا وأوروبا قرروا بعد ثلاث سنوات من الهولوكوست أنهم لن ينتقدوا الحركة الصهيونية لارتكاب هذه الجريمة، لذلك كانت الرسالة إلى القيادة الصهيونية أن الغرب يسمح بالتطهير العرقي إذا كان الضحايا من الفلسطينيين.
وأكد إيلان، أنه إلى حدود ثمانينيات القرن الماضي لم يكن بالإمكان سماع الرواية الفلسطينية رغم وجود مؤرخين فلسطينيين ومؤرخين مؤيدين للفلسطينيين، لكن قصتهم كانت تعتبر دعاية وليس تعاملا أكاديميا حقيقيا والنسخة المعتبرة الوحيدة للأحداث كانت النسخة “الإسرائيلية”، ثم حصل تحول جوهري بعدما بات العلماء في الغرب يدركون القصة الحقيقية، وأن الرواية الفلسطينية للأحداث تقوم على حقائق وأنها ليست دعاية، ويمكن إثباتها من خلال العمل في الأرشيف ومن خلال العمل الأكاديمي المهني، مشيرا إلى أن أهم المراكز الأكاديمية في العالم ومعظم الأكاديميين في الغرب يقبلون فكرة أن إسرائيل ارتكبت التطهير العرقي في عام 48.
وذكر إيلان أنه بعد مغادرته “إسرائيل” إلى لندن للحصول على درجة الدكتوراه في أوكسفورد بإشراف ألبرت حوراني، أصبح حينها قادرا على الالتقاء بالفلسطينيين حيث كان مهم جدا أن يستمع إلى القصة من المثقفين الفلسطينيين، وأن يرى أن ما يقولونه هو ما وجده في الأرشيف، مضيفا أنه احتاج وقتا قبل أن يدرك ليس فقط أن القصة التي عرفها خاطئة بينما القصة التي يرويها الفلسطينيون صحيحة، وبالتالي كان عليه كمؤرخ أن يكشف لماذا حدث، والأهم من ذلك في حالة اليهود كيف يمكن لضحايا معاداة السامية عبر الهولوكوست النازي أن يفعلوا هذه الأشياء بشعب آخر، وهو ما اعتبره السؤال الأخلاقي الأكثر أهمية.
وكشف إيلان أنه بعد مرور نحو ستة عقود، بدأت الرواية الصهيونية تتعرى شيئا فشيئا بفعل دور نخبة قليلة من المؤرخين الإسرائيليين الجدد، الذين حاولوا استعادة الأحداث التاريخية بعيدا عن تأثير الدوائر الصهيونية مما مكنهم من الاقتراب من الرواية الفلسطينية والعربية إلى حد بعيد، رغم بعض الظواهر السلبية التي لا تزال تعتري كتاباتهم وآرائهم، لم تغير شيئا لدى القارئ الفلسطيني والعربي، لكنها فعلت فعلها في الأوساط “الإسرائيلية”، لأنها صدرت عن يهود عاشوا حياة صهيونية تقليدية قبل أن يزرعوا الكثير من بذور الشك في حقيقة الخرافات والأوهام التي قامت عليها العقيدة والفكرة الصهيونية.
خرافات عشر صاحبت السردية الصهيونية
وأشار المؤرخ اليهودي إلى الخرافات العشر التي صاحبت السردية الصهيونية؛ يجب الانتباه لها لأنها بدأت تصدق أحيانا في العالم العربي بسبب عمليات التطبيع، وقسمت الخرافات إلى خرافات الماضي وخرافات الحاضر:
الخرافة الأولى هي أن فلسطين كانت أرضا بلا شعب، والثانية هي أن يهود أوروبا كانوا شعبا بلا أرض، ومن الخرافات القديمة الأخرى أن الفلسطينيين كانوا يستخدمون الإرهاب خلال فترة الانتداب البريطاني، عندما خاضوا صراعا ضد الاستعمار البريطاني وسياسته الموالية للصهيونية كثورة البراق عام 29 والثورة العربية عام 1936، وهناك مجموعة من الخرافات القديمة المرتبطة بعام 48 وأن حرب 48 كانت حربا بين داود الإسرائيلي وجالوت العربي.
ثم خرافات الحاضر؛ تتجلى عام 67 كانت القصة الرئيسية التي ترويها “إسرائيل” هو أنه كان عليها خوض الحرب لأن جمال عبد الناصر كان يؤسس تحالفا يهدف إلى تدمير “إسرائيل”، وأهم خرافة إسرائيلية في العالم العربي عندما يقولون “إسرائيل” دولة ديمقراطية، وخرافة أن “حماس حركة إرهابية”، ثم خرافة مسألة حل الدولتين هو الحل الوحيد للمضي قدما في تحقيق السلام.
وجوابا على سؤال حول الحل الذي يقترحه، أوضح إيلان أن الأمر مهم للغاية وهو متروك للفلسطينيين لتقرير مصيرهم، وأنه حان الوقت ليطلعنا الفلسطينيون على رغباتهم وعن احتياجاتهم التي لم يخبرونا بها منذ سنوات، مضيفا أن له علاقة وطيدة بعدد من الشباب وخاصة الشباب الفلسطيني، الذين يتحدثون بوضوح شديد عن فلسطين المنشودة والتي لن تكون فقط محررة من الصهيونية والاستعمار والقمع، لكنها أيضا ديمقراطية تقبل بوجود ملايين اليهود الذين يعيشون اليوم في “إسرائيل”.
وزاد إيلان، أن الأكاديميين يجب أن يساعدوا الحركة السياسية على البدء في بناء نماذج حقيقية لدولة واحدة، ويجب أن نخبر الشعب اليهودي الذي يعيش اليوم ضمن نظام الفصل العنصري كيف سيكون شكلهم بعد الفصل العنصري، مع ضرورة وجود قيادة فلسطينية موحدة تقر في القرن الحادي والعشرين بأن مشروع تحرير فلسطين سيتحقق بإقامة دولة واحدة.
موقع الإصلاح