مؤرخ إسرائيلي: غزة لم تعد موجودة وما يحدث فيها إبادة جماعية
أمام حجم المجازر والدمار الذي ارتكبه جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، يرى المؤرخ الإسرائيلي المتخصص في “المحرقة” (الهولوكوست) عاموس غولدبرغ، أن “إسرائيل”، “بالغت في رد فعلها بشكل إجرامي” على هجوم طوفان الأقصى، واتهمها بارتكاب “إبادة جماعية” في غزة.
وقال غولدبرغ -في مقابلة مع صحيفة لوموند- عند سؤاله كيف اتهم “بلده” بارتكاب “إبادة جماعية” في غزة، إن الأمر استغرق منه بعض الوقت، حيث كان في السابع من أكتوبر 2023 بمثابة صدمة ومأساة، وهجوم مروع بحجم لم نشهده من قبل، وبالتالي لم تكن لديه الكلمات لشرح هذا الحدث أو استيعابه، مشيرا إلى أنه فهم جيدا سياق الاحتلال والفصل العنصري والحصار، وهي أمور يمكن أن تفسر ما كان يحدث، ولكنها لا يمكن أن تبرر مثل هذه الفظائع، حسب رأيه.
وبعد الهجوم بدأ القصف الإسرائيلي المكثف مباشرة، وفي غضون أسابيع مات آلاف المدنيين في غزة، وظهر خطاب الإبادة الجماعية وهيمن على وسائل الإعلام والرأي العام والمجال السياسي، مثل قول وزير الدفاع يوآف غالانت “علينا القضاء عليهم (الفلسطينيون) فهم حيوانات بشرية”، وقول رئيس الدولة إسحاق هرتسوغ “إنها أمة بأكملها هي المسؤولة”، وقول وزير التراث عميحاي إلياهو “علينا إسقاط قنبلة نووية على غزة”، وقول وزير الزراعة آفي ديختر “هذه هي نكبة غزة 2023″، في إشارة إلى طرد 700 ألف فلسطيني خلال حرب 1948.
إدانة الخطاب الإسرائيلي
ويتابع المؤرخ في مقابلته مع ستيفاني لو بار: “كانت هذه الكلمات صادمة جدا لدرجة أنني لم أجد ما أقوله”، وبالفعل قام بالتوقيع على رسالة مع 50 أكاديميا آخرين متخصصين في المحرقة والدراسات اليهودية، وطالبوا فيها بإدانة الخطاب، الصريح أو الضمني الذي يدعو في إسرائيل إلى الإبادة الجماعية في غزة.
ويقول المؤرخ: لذلك بدأت الكتابة وأنا أدرك أن كارثة إنسانية وسياسية هائلة كانت تتكشف أمام أعيننا، وكتبت بالعبرية “نعم إنها إبادة جماعية”، وترجم النص إلى اللغة الإنجليزية وقرأه كثيرون حول العالم.
وردا على سؤال عن كيفية توصله إلى اتهام دولة “تم إنشاؤها ردا على المحرقة”، قال إن الأمر مؤلم للغاية فهو يلوم مجتمعه ويلوم نفسه، وهو يحارب الاحتلال والفصل العنصري منذ سنوات، ويعلم أن إسرائيل ارتكبت جرائم في الأراضي المحتلة، لكنه لم يتخيل قط أن تصل إلى هذه الدرجة من سفك الدماء والقسوة، حتى بعد السابع من أكتوبر.
تجاوز عتبة الإبادة
ورغم أنه ليس خبيرا قانونيا -كما يقول- فإن غولدبرغ مقتنع مع العديد من الخبراء القانونيين حول العالم بأن “إسرائيل” تجاوزت عتبة الإبادة الجماعية، وقد أكدت محكمة العدل الدولية أن الاتهام بالإبادة الجماعية “معقول”، كما أكدت ذلك فرانشيسكا ألبانيز مقررة الأمم المتحدة الخاصة للأراضي المحتلة، وأكدته رسائل مفتوحة موقعة من قبل مئات الأكاديميين والمحامين.
وأكد المؤرخ أن ما يحدث في غزة إبادة جماعية، لأن غزة لم تعد موجودة، إذ تم تدمير المنطقة بالكامل، وذلك بناء على مستوى ووتيرة عمليات القتل العشوائي التي تؤثر على أعداد هائلة من الأبرياء، حتى في الأماكن التي حددتها “إسرائيل” مناطق آمنة، وكذلك تدمير المنازل والبنية التحتية وجميع المستشفيات والجامعات تقريبا، والتشريد الجماعي والمجاعة المنظمة، وسحق النخب وتجريد الناس من إنسانيتهم على نطاق واسع.
واستنتج غولدبرغ أن هذا بالضبط ما كان يدور في ذهن رافائيل ليمكين، الفقيه اليهودي البولندي الذي صاغ مصطلح “الإبادة الجماعية” وكان المبادر الرئيسي لإنشاء محكمة العدل الدولية، لوجود الدمار والنية ونمط متكرر من العنف الشديد ضد المدنيين، ويبقى ما ستقرره محكمة العدل الدولية في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا على “إسرائيل”.
شكوك في أهداف الحرب
وأشار المؤرخ الإسرائيلي إلى أن عددا متزايدا من الناس في “إسرائيل”، وإن لم يستخدموا مصطلح “الإبادة الجماعية”، يشكون في منطق هذه الحرب وأهدافها ويعارضون استمرارها، كما أن هناك أقلية صغيرة تعارضها على أسس أخلاقية.
ولا يمكننا -كما يرى المؤرخ- أن ننتظر قرار محكمة العدل الدولية، لأن الأوان سيكون قد فات بالنسبة للفلسطينيين في غزة وللإسرائيليين وللشعب اللبناني وللرهائن، وبالتالي يجب أن نجازف بالقول إننا نواجه إبادة جماعية عندما يكون لدينا الكثير من الأدلة، حتى قبل قرار المحكمة، وإلا فما فائدة أن نقول بأثر رجعي “نعم لقد كانت بالفعل إبادة جماعية”.
وقال غولدبرغ: “أعتقد أن هناك فرصة جيدة لأن تعترف محكمة العدل الدولية بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، أو على الأقل أعمال الإبادة الجماعية، مثل الهجوم على مستشفى الشفاء أو التجويع المتعمد لمئات الآلاف من الأشخاص، وبالنسبة لأولئك الذين لا يعتقدون أن هذه إبادة جماعية، أود أن أضيف أن الحقيقة هي أنه تم ارتكاب جرائم حرب خطيرة وجرائم ضد الإنسانية”.
تهديد لوجود الفلسطينيين
وعند السؤال عن عودة المخاوف الوجودية لدى الطرفين، من المحرقة بالنسبة لليهود، والنكبة بالنسبة للفلسطينيين، قال المؤرخ إن الأمر ليس فيه أدنى تشابه، إذ هذه ليست محرقة لليهود لأن إسرائيل تملك أحد أقوى الجيوش في العالم، وهي بالفعل نكبة ثانية، لأن الفلسطينيين يعيشون وضعا مؤلما للغاية يهدد وجودهم ذاته.
وعند تفسيره للتجريد من الإنسانية في كلا المعسكرين، اعتذر عن الحديث عن المجتمع الفلسطيني الذي ليس من اختصاصه، مشيرا إلى أن الحروب تسببت دائما في تجريد الطرف الآخر من إنسانيته، مؤكدا أن “إسرائيل” لا تستطيع تبرير النكبة والاحتلال والفصل العنصري، والآن حرب الإبادة الجماعية في غزة، من دون تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم.
وختم المؤرخ عند سؤاله عن توقعاته في السنوات القليلة القادمة قائلا “الدم. الدم. الدم. لا أرى سوى مستقبل رهيب. ولكن يجب علينا أن نتمسك بإنسانيتنا المشتركة ونأمل أن تتغير الأمور ذات يوم، وهو ما لا يلوح في الأفق بعد”.
عن “الجزيرة نت”