لولا ذكرى المصطفى الخالدة – سحر الخطيب
كلما حل الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل سنة إلا ونشهد انتفاضة لقلب وجسد الأمة فرحا واحتفالا بمولد خير الأنام، المبعوث رحمة للعالميـن، المصطفى صلى الله عليه وسلم أكثر مما نشهد حزنا وألما على وفاته بما أن هذا التاريخ الأغر كما أنه تاريخ مولد خير الورى، فإنه أيضا تاريخ وفاته والتحاقه بالرفيق الأعلى.
إن وفاته صلى الله عليه وسلم كانت بعد تخيير ملك الموت له بالبقاء في الدنيا أو الالتحاق بجوار ربه، فاختار جوار ربه. فعند احتضاره في حجرة عائشة وبعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من السواك حتى رفع يده أو إصبعه وشخص بصره نحو السقف وتحركت شفتاه فأصغت إليه عائشة وهو يقول: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى. كرر الكلمة الأخيرة ثلاثاً، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى. فهو الذي اختار الآخرة على الدنيا.
رغم أنه فارق الدنيا بجسده إلا أن روحه تسري في أمته، فسنته وسيرته تلازمنا في كل وقت وحين ونهجه القويم نحرص على أن نسلكه في كل أعمالنا واسمه الكريم نردده في كل أذان وفي كل صلاة و في أذكار الصباح و المساء، و يسن الإكثار من الصلاة عليه يوم الجمعة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجُمُعة، فيه خُلِقَ آدَمُ، وفيه الصَّعقة؛ فأكثِرُوا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتَكم معروضةٌ عليَّ))؛ رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه
حتى أن أجر هذه العبادة تسحب على فاعلها فيناله عشر أضعاف ما ينال رسول الله من صلاة وتسليم. عَن أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً، صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا))؛ رواه مسلم.
بل أن المولى سبحانه خصه بمعجزات ظاهرات. ومن ذلك أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم تُرَدُّ إليه رُوحُه لِيَرُدَّ السَّلام على كُلِّ مَنْ سَلَّمَ عليه؛ إكرامًا له، واتِّصالًا مع الأُمَّةِ بعدُ مَوتِه؛ كما في هذا الحديثِ حيث يقولُ صلَّى الله عليه وسلَّم: “ما من أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ”، يعني: أيُّ شَخْصٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ فَيذكُرُني بالسَّلام، “إلَّا رَدَّ الله عَلَيَّ رُوحِي”، أي: أَرْجَعَ اللهُ له رُوحَه صلَّى الله عليه وسلَّم “حتَّى أَرُدَّ عليه السَّلامَ”،
جاء في الحديث “ما مِن أحدٍ يسلِّمُ عليَّ إلَّا ردَّ اللَّهُ عليَّ روحي حتَّى أردَّ علَيهِ السَّلامَ”
الراوي : أبو هريرة | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح أبي داود
لولا ذكرى المصطفى الخالدة لما احتفينا بحلول السراج المنير بين ظهرانينا، قال تعالى في سورة الأحزاب: –يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا )- [الآية: 45 /46 . تقتضي هذه الآية أن الخلق كانوا – قبل مبعثه – في ظُلمةٍ عظيمة، وليس ثمَّة نور؛ يُهتدى به في هذه الظلمات، ولا علم؛ يُستدل به في هذه الجهالات، حتى جاء اللهُ تعالى بهذا النبي الكريم، فأضاء اللهُ به تلك الظلمات، وعَلَّمَ به من الجهالات، وهدى به ضُلاَّلاً إلى الصراط المستقيم، وأمَدَّ اللهُ بنور نُبوَّتِه نورَ البصائر؛ كما يُمَدُّ بنور السراجِ الأبصار.
فأصبح أهلُ الاستقامة -أعني بهم: المتمسكين بهدي نبيهم وسنته – قد وضَحَ لهم الطريق، فمَشَوا خلف هذا الإمام القائد العظيم صلى الله عليه وسلم، وعرفوا به الخيرَ والشر، وأهلَ السعادة من أهل الشقاوة، واستناروا به، لمعرفة معبودهم سبحانه وتعالى، وعرفوه بأوصافه الحميدة، وأفعاله السديدة، وأحكامه الرشيدة. ألا نحتفي بتبديد الظلمة وحلول النور. ألا نحتفي بسيادة العلم على الجهل. ولم يكن ذلك ممكنا لولا بعثة الرسول الكريم، عليه صلوات ربي وسلامه كلما عم النور في الأرض وتحقق العلم والعدل. إنه السراج المنير بشهادة رب العالمين، إنه مصدر النور والحياة. نور البصائر وحياة القلوب. ألم يجد أحمد شوقي عندما قال:
وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ
الـروحُ وَالـمَـلَأُ الـمَلائِكُ حَولَهُ لِـلـديـنِ وَالـدُنـيـا بِهِ بُشَراءُ
لولا ذكرى المصطفى الخالدة، لما احتفينا بالصدق والأمانة وهو من جسدهما حقا حتى قبل بعثته، لولا ذكرى المصطفى الخالدة لما احتفينا بحسن الخلق ونبل المشاعر وفيض العدل والرحمة خاصة في زمن تراجعت فيه القيم وتردت فيه الأخلاق.
لولا ذكرى المصطفى الخالدة، لما احتفينا بخلود القرآن نورا هاديا ومهيمنا وخلقا راسخا أبديا. فقد كان صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن كما ورد عن أقرب الناس إلى قلبه، عائشة رضي الله عنها. إنه صلى الله عليه وسلم حامل الرسالة الخاتمة وواضع النهج القويم الذي إن حدنا عنه، خسرنا إيماننا وإسلامنا، بل وآخرتنا. فاتباع سنته عليه أزكى الصلاة والسلام شرط قبول الأعمال بعد النية الخالصة.
ما بواعث الاحتفاء بذكرى المصطفى الخالدة؟
إن ما يبعث على إحياء هذه الذكرى الخالدة عدة دوافع جوهرية: تنبع من تجديد الحب لشخص رسولنا الكريم كما قال عليه السلام: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه، و ماله و ولده ووالده و الناس أجمعين” رواه البخاري و مسلم ؛ ثم من تجديد العهد و البيعة لله ورسوله كما جاء في الآية 10 من سورة الفتح: “إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله” و كذلك من تجديد الاتباع الذي قد يضيع في خضم الإيديولوجيات و المعتقدات العقلية و القلبية الراهنة، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم) سورة آل عمران، الآية 31.
وأخيرا وليس آخرا تبعث هذه الذكرى المباركة على تجديد الإيمان في القلوب وجاء في الحديث عن ابن عمرو – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله تعالى: أن يجدد الإيمان في قلوبكم”. رواه الحاكم والطبراني وصححه الألباني. إنه تجديد يشحن القلب بعبق سيرته ووهج سنته ثم يفيضها على الجوارح في الحركات والسكناتـ، فتنعم الأوساط والأجواء بهذا الفيض ويتحقق الانبعاث من جديد، انبعاث الفرد وانبعاث الأمة، وخاصة في بيئة كثرت فيها الملهيات والشهوات وعزت فيها القدوات الصالحة والنماذج المضيئة.
هذا وإن الاحتفاء بذكرى مولد خير الورى يتعين أن تبقى في نطاق الاتباع وليس الابتداع المنهي عنه كما أكد على ذلك علماء الأمة. وإلا فكيف نجدد فينا الاتباع والاقتداء لأحب شخص في الأرض وفي السماء؟
إن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كما كانت إنقاذا للبشرية من الظلمات والجهل والظلم والاستعباد، تأتي ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم لتكون منجاة للإنسانية من طغيان الفتن والأهواء والشبهات. إنها تعيد توجيه البوصلة في حياتنا، فتستقيم مراداتنا وعقولنا وقلوبنا إلى الوجهة الصحيحة.
فعندما نحتفي بذكرى المصطفى الخالدة من خلال تعداد مناقبه وشمائله ومن خلال بسط سيرته وسنته للشباب ومن خلال تصحيح المغالطات والإساءات المغرضة التي تصدر بشأنه، فإننا نستجيب لأمر الله تعالى: و”ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين” – سورة الذاريات، الآية 55- فنخرج عباداتنا من خانة العادات إلى خانة القربات.
عندما نحتفي بذكرى المصطفى الخالدة فإننا نلبي دعوة الله إلى نصرة رسوله وصفيه من خلقه عليه الصلاة والسلام لما قال: ” إلا تنصروه فقد نصره الله” سورة التوبة-الآية 40.
وعندما نحتفي بذكرى المصطفى الخالدة، فإننا نعرف بشخصه الكريم ومهمته النبيلة لمن لا يعرفه أو ينكره، فيكون التعريف بسيرته وسنته وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله. وختاما، إن الاحتفاء بذكرى المصطفى الخالدة هي احتفاء بأمة الإسلام. إنها تخاطب العالم أجمع قائلة له: إن الأمة حية، إنها حقا ذات كينونة جوهرها حب النبي صلى الله عليه وسلم، إنها معتزة بنبيها الكريم، وأن الاقتداء به والسير على نهجه هو مصدر قوتها وملهم انبعاثها من جديد.