لنحذر هجر القرآن – صباح الدقاقي
يقول الله تعالى في محكم تنزيله : “وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا” آية 30 الفرقان.
هذه الآية جاءت في سورة الفرقان، والفرقان اسم من أسماء القرآن العظيم، ويعني الذي يفرق بين الحق والباطل.
وإذا تدبرنا ترتيب السور، فسنجد أن سورة الفرقان جاءت في ترتيب المصحف بعد سورة النور، فبعد تَثَبُّت سورة النور في قلب الإنسان المؤمن، يستطيع أن يفرق بين الحق والباطل.
أما المقصد الأساسي في سورة الفرقان فهو تقديم منهج يجعل الإنسان يفرق بين الحق والباطل، ويميز بين الخير والشر خاصة في أزمنة المحن، التي تختلط فيها الأمور وتكثر فيها الشبهات، يحتاج الإنسان إلى صلة وطيدة بالفرقان، تنير له الطريق وتبدد ظلمة الشبهات.
” وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا”.
استعمل محمد صلى الله عليه وسلم أداة النداء لشدة بث الشكوى، وقد وردت كلمة” يا رب” على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم مرتين فقط في القرآن الكريم، في هذه الآية وفي الآية 88 من سورة الزخرف: “وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون”، فيها يبث الرسول صلى الله عليه وسلم شكواه لله بعدم تصديق الناس له وكفرهم.
والرسول صلى الله عليه وسلم، لم يقل إن قومي هجروا القرآن لأن هجروا لا توفي المعنى، اتخذوا أشد مبالغة في وصف هجر القرآن.
أما قول هذا القرآن، فأداة الإشارة “هذا” للتعظيم، يعني هذا الذي نقرأه يجدر ألا يهجره هاجر، هذا الذي يجدر أن يتقرب به العباد. ولبيان ووصف التمكن من الهجران، استخدمت كلمة مهجورا.
إن الآية التي بين أيدينا، جاءت بعد آيات تصف حال الكافر يوم القيامة: يتحسر ويندم على الصحبة التي أبعدته عن كتاب الله وكانت سبب شقاءه، حيث يقول سبحانه وتعالى: “ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا. يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا. لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا”.
إذن بعد ذكر الوعيد بالمصير السيئ الذي ينتظر المكذبين، بالرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته يوم القيامة، جاءت شكوى النبي صلى الله عليه وسلم. وهي شكوى عامة لا تنحصر في زمانه الذي هجر فيه الكفار كتاب الله سبحانه وتعالى، بل تتعداه إلى واقعنا الذي نعيش فيه، حيث أن الهجر قد يصيب المسلمين في حياتهم.
والهجر في اللغة يعني المفارقة، مفارقة الإنسان للشيء، سواء كانت تلك المفارقة بالجوارح والبدن أو كانت مفارقة باللسان أو بالقلب، فكل أشكال المفارقة تعد هجرا.
وقد ذكر العلماء كثيراً من أشكال الهجر للقرآن، ندرج ما جاء به الإمام ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد، حيث ذكر خمسة أنواع من هجر القرآن الكريم:
- هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه:
أي الإبتعاد عن سماع القرآن وتحاشي ذلك، أو أن يضيق صدر الإنسان عند سماعه للقرآن- والعياذ بالله من ذلك – وهذا مؤشر خطير وواضح على فساد قلب هذا الإنسان، وسيطرة الشيطان عليه، فمن علامات المؤمن الصالح ألا يمل سماع القرآن وأن يشتاق إليه إذا ما شغله شاغل عن سماعه. فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قالَ:[لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقابِرَ].
- هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به:
هذا النوع الثاني من الهجر يعني الوقوف عند تلاوة القرآن فقط تلاوة لفظية، دون أن يجاوز الحناجر إلى القلوب، ومن دون أن يطبق ما في القرآن من أوامر، ومن دون أن ينتهي عما فيه من نواهي ومحذورات وإن كان يؤمن بأن ما فيه من نواهي محرم على المسلم أن يقع فيه.
- هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه:
أي عدم الرجوع إلى ما تضمنه القرآن الكريم من أحكام شرعية، وعدم الرضا بتحكيمه في الخلافات وعدم الاعتماد عليه في فض النزاعات.
يقول عز وجل : {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} آية 65 سورة النساء.
و لسؤال الذي يطرح نفسه، هل نحكم شريعة الله مع أبنائنا ؟ مع أزواجنا ؟ مع أرحامنا؟…
- هجر تدبره وتفهمه:
التفسير خاص بالعلماء والتدبر لعامة المسلمين. فالواجب على المسلم أن يفهم كلام الله ويمتثل لأوامره ويجتنب نواهيه.
ويظهر أثر ذلك على القول والفعل ويعرض نفسه على كل آية ويتسائل أين هو منها.
يقول تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} آية 24 سورة محمد.
وقال ابن تيمية: (من لم يقرأ القرآن فقد هجره، ومن قرأ القرآن ولم يتدبر معانيه فقد هجره، و من قرأه و تدبره و لم يعمل بما فيه فقد هجره).
هجر الاستشفاء والتداوي في جميع أمراض القلوب وأدوائها:
يقول سبحانه وتعالى:” وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا” آية 82 سورة الإسراء.
الإستشفاء بالقران الكريم يحتاج إلى عقيدة قوية وإيمان راسخ بأن في هذا القرآن شفاء من عند الله.
أما أسباب هجر القرآن الكريم وتدبر معانيه فهي كثيرة، نذكر منها:
✓ الهجر الناتج عن الجهل؛
إذ أن الكثير من المسلمين يجهلون اللغة العربية وبالتالي يجدون صعوبة بالغة في تدبر معانيه.
✓ الثقافة المتأثرة بالفكر الدخيل على العالم الإسلامي؛ مما شغل الكثير، إلا من رحمه الله، عن قراءة القرآن و تفسيره.
✓ التراخي في الاهتمام باللغة العربية أو دراسة القرآن أو السنة النبوية الشريفة في العديد من المجتمعات الإسلامية في المراحل الدراسية الأساسية؛
✓ انعدام نهج واضح لتبني دراسة منهج الله من قبل الدعاة في العالم الإسلامي؛
✓ الإيمان الضعيف الموجود في الكثير من أبناء الأمة الإسلامية؛ مما يضعف من تصورهم لعظمة كتاب الله وما فيه من أحكام شاملة لجميع جوانب الحياة.
إن هاجر القرآن الكريم هو في الحقيقة مُعاد لله، وهذه نتيجة خطيرة تحتم علينا التوبة قبل فوات الأوان.
ألم يقل الله تعالى: “وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا(31)”. فبين سبحانه وتعالى أن من هجر القرآن فهو من أعداء الرسول.
إن مما ينبغي أن يستعين به العبد للعودة إلى حب كتاب الله تعالى والتزام تلاوته والخضوع لأوامره واجتناب نواهيه، هو:
النظر في أهمية هذا الكتاب العزيز ومعرفة قدره والتعرف على حقيقة ما فيه، وتدبر الآيات والإستماع إلى القرآن مستشعرا أن الله يخاطبه، فإنه سيجد نفسه أمام كثير من صفات الله وأسماءه، وسيجد لذة تلك الآيات التي ستؤثر في قلبه وبدنه.
وختاما علينا أن نتفقد أنفسنا وننظر إلى أحوالنا مع كتاب الله تعالى، هل نحن من التالين حق التلاوة أم نحن من الهاجرين؟ فإن وجدنا أنفسنا مع العاملين حمدنا الله تعالى وسألناه الزيادة والثبات، وإن وجدنا أنفسنا مع الهاجرين استعذنا بالله تعالى، وأقبلنا على كتاب ربنا تعالى وسألناه التوفيق إلى ذلك.
ولعل رمضان أفضل فرصة لعقد الصلح مع كتاب ربنا من جديد.