لماذا نحتاج إلى الفجر العظيم؟ – زياد ابحيص
المسجد الإبراهيمي محاصر تماماً، يطبق فيه تقسيم زماني ومكاني؛ ففي الأعياد اليهودية تفتح كامل مساحته لاحتفالات المتطرفين الصهاينة، وفي غير أعيادهم لهم منه المساحة الأكبر على مدار الساعة.
وبعد مجزرة فجر يوم 25-2-1994 ارتبطت الصلاة في المسجد الإبراهيمي بالدم، بثمن باهظ تكبده المصلون، وجاءت من بعدها “اتفاقية الخليل” التي وقعتها القيادة الفلسطينية عام 1997 لتكرس عزل المسجد الإبراهيمي وتضعه مع شارع الشهداء وتل الرميدة وسائر البلدة القديمة تحت السيطرة الكاملة للاحتلال، فيما سمي بمنطقة H2.
من وسط هذا العدوان والخوف والوقائع التي تكرست لعزل المسجد، جاءت مبادرة الفجر العظيم لاستعادة الثقة واستجماع الإرادة والعودة إلى هذا المسجد بأعداد كبيرة، تمسكاً بهويته الإسلامية وتبديداً لرهان التخلي عنه مع طول الزمن.
في صلاة الفجر من أيام الجمعة تحديداً كان يُدعى للاجتماع بأعدادٍ كبيرة، فالعدد بحد ذاته ضمانة، وكما كانت المجزرة في فجر الجمعة 25-2-1994 فكان لا بد أن يكون فجر الجمعة بذاته بوابة استعادة الثقة والإرادة والصمود.
بدأ الفجر العظيم بمحاولات مبكرة خجولة في رمضان منذ عام 2015، كانت تنجح حيناً وتفشل أحياناً، حتى جاء خريف عام 2019 لتنتظم هذه المبادرة؛ إذ تعهدت مجموعة من شباب الخليل بأن يقفوا خلف المصلين يحرسون ظهورهم، يمنعون الاستفراد بهم ويحولون بأجسادهم دون تكرار مشهد مباغتة الساجدين الآمنين، كانوا من كل الأطياف ومن مختلف العائلات والحمائل، عبروا عن إرادة مدينتهم في كسر عقدة الدم، فاستجاب لهم أهلهم ووثقوا بهم وعادوا إلى مسجدهم بالآلاف.
لم يطُل الزمن بهذه الإرادة حتى سرَت شعاعاً ممتداً إلى المسجد الأقصى المبارك، ليبدأ الفجر العظيم فيه في شهر 1-2020، ليَفد إليه المرابطون بالآلاف، فبات المسجد القبلي ومصلى باب الرحمة لا يتسعان لأعداد المصلين، ففُتح الأقصى القديم وامتدت الصفوف إلى ساحة الأقصى.
من الأقصى سرت تلك الروح في فلسطين، لتتحول إلى فجرٍ عظيمٍ بحق، بمشهده المهيب في مسجد النصر بنابلس وفي مساجد يعبد وجنين وطولكرم وغزة، ثم في الأردن ولبنان والكويت والمغرب وحتى إندونيسيا… ولو لم يقاطَع هذا المد البشري الغامر بوباء كورونا وإجراءات الوقاية منه وتوظيفها لاحقاً ضد الإرادة الشعبية؛ لكنا شهدنا رمضاناً مختلفاً في صيف 2020.
اليوم يعود الفجر العظيم بعد أن سقطت القيود… تشتاق إليه قلوب المرابطين والمحبين، يفدون إلى المسجد الإبراهيمي وإلى الأقصى من كل صوب، وأعداد المرابطين في الأقصى تتعاظم فيه رغم شدة البرد، حتى باتت تملأ المسجد القبلي ومصلى باب الرحمة من جديد… من القدس ومن الداخل المحتل رغم طول الرحلة، من الضفة الغربية رغم المخاطرة والمشقة والمنع المتكرر لعشرات الشباب من دخول الأقصى بعد أن يكونوا قضوا الليل كله في الوصول إليه، لكنهم يأتون، وللفجر العاشر على التوالي لهذا العام 2022.
استجابت هذه الجماهير لنداء الفجر العظيم لأنها تحتاجه، لأنه يعبر عما تبحث عن التعبير عنه، وعما يراد طمسه ووَأده. تحتاجه لتقول بأنها لن تستكين لعقدة الدم، وأن وعيها لن يكوى بالقوة رغم القتل والترهيب…
تحتاجه لتقول إنها تتمسك بهويتها وأرضها ومقدساتها مهما طال الزمن واختلت موازين القوى… تحتاجه لتستعيد مساحة اجتماعها والتعبير عن إرادتها وإن تضافرت كل القوى السياسية والأمنية والاقتصادية على وأد تلك الإرادة ومنعها من التجلي بأي شكل في فضاء فلسطين…
تحتاجها لتقول بأن الأقصى هو قلب فلسطين وقلب الأمة، وأن عروقها ما تزال مشدودة إليه رغم كل محاولات التقطيع والاستفراد ورغم الجدار والحواجز ورغم سياسات المنع من الدخول.
في داخل فلسطين وخارجها نحتاج الفجر العظيم لنكسر طوق العجز، ونستعيد تجلي إرادتنا من بوابة الممكن، نحتاجه بينما الأقصى مهدد في رمضان المقبل بعدوان على مدار سبعة أيام لتقديم القرابين فيه، نحتاجه لنرفض تهويد الشيخ جراح ولنعلي قيمة الشهادة ولنقف مع حراس الأرض حيثما وجدوا في مقاومتهم الشعبية، ولنقف مع حراس الأقصى…
نحتاجه لنقول بأن القيمة أعلى عندنا من أي مال أو مصلحة، لنعلن للدنيا ما حُزنا به أفضليتنا وخيريتنا: أننا أمة الحق، أمة القيم، أمة صاغها آي القرآن… أمة لم تأت للدنيا حصيلة فائض المال أو الثروة، بل نتاجاً لدعوة الحق ولاعتناقها عن حرية وقناعة وإيمان راسخ، ولأجل هذا الحق يهون كل شيء.
نحتاج الفجر العظيم لنحقق الفجر المشهود… يشهده أهل السماء وأهل الأرض، إن قرآن الفجر كان مشهوداً.