لعبة الكراسي – خديجة رابعة
طالما لعبناها و سعدنا بها و نحن صغار٠
لعبة أدواتها تسعة كراسي و أبطالها عشرة أطفال٠
هدف كل واحد هو الفوز بالكرسي٠ يشرع الأطفال بالدوران حول الكراسي ينتظرون إشارة المشرف على اللعبة ٠ فيسارع كل طفل للجلوس على كرسيه٠ من حظي بالكرسي هو الفائز، و من لم يتمكن من الحصول عليه خرج من اللعبة٠ فتتناقص الكراسي شيئا فشيئا كما يتناقص عدد الأطفال، حتى يبقى كرسي واحد لطفلين، أحدهما الفائز و الآخر خاسر٠
لا زالت هذه اللعبة تلعب بنفس الطريقة في دور الشباب و المخيمات و رياض الأطفال٠
كم كانت دهشتي كبيرة عندما رأيت الأطفال اليابانيين يلعبونها !…
يستعملون تسعة كراسي و يساهم فيها أيضا عشرة أطفال، لكن الطريقة مختلفة٠
الفائز ليس من يحصل على مقعد عند سماع الإشارة٠ الفائز هي مجموعة الأطفال العشرة كاملة عندما تتعاون و تتكاثف لتجد مكانا للفريق كلِّه فوق الكراسي٠ هذه الأخيرة تتناقص شيئا فشيئا حتى يبقى كرسي واحد لعشرة أطفال٠ و الجميل أنهم عند سماع إشارة المشرف، يصعدون جميعهم فوق الكرسي الأخير؛ يشد بعضهم بعضا، فيكون الفوز حليف الفريق كله٠
فرق كبير بين لعبة الكراسي عندنا و عندهم !
ما الذي نرسخه في عقلية أطفالنا من خلال هذه اللعبة ؟
للأسف نعلمهم أن الفوز للأقوى، للأسرع (قانون الغاب)
نعلمهم أن الموارد قليلة و شحيحة، لذا يجب المسارعة لاقتناص الفرص، و إن كان على حساب الآخر٠
إنها عقلية الجذب التي ترى في الحياة رغيف خبز إذا أصاب أحد منه قضمة ضرب النقص حصة صاحبه٠
أصحاب هذه العقلية يعتبرون نجاح الآخرين خسارة لهم، و يصعب عليهم التعاون مع غيرهم٠
إنهم يفكرون بمنطق ” أربح و يخسر الآخرون “٠
إنه اتجاه نفسي ينظر إلى الحياة كحلبة صراع، و ميدان سباق لا يستفيد فيه أحد إلا على حساب خسارة الطرف الآخر٠
للأسف من خلال هذه اللعبة نثبت في عقل الطفل قاعدة أن المصلحة الفردية أهم و أولى بالاهتمام من المصلحة الجماعية، و نؤسس – من حيث ندري أو لا ندري – لثقافة الأثرة و نزعة الأنانية٠
أما اليابانيون فيغرسون حب الفريق في طفل الروضة، و يؤسسون لأولوية المصلحة العامة٠
يعلمون أبناءهم ثقافة الوفرة، و أن في الحياة عطاء و مُتَّسَع لكل إنسان، فالجميع مُرَحَّب به للمشاركة في المكانة و الاعتبار و المنافع و التخطيط و صناعة القرار٠
و الفرص متاحة للجميع للعمل و الإنجاز و النجاح كما يقول ستيفن آر كوفي في ” العادات السبع للناس الأكثر فعالية “٠
يلقنون أطفالهم أن الربح الحقيقي و الاستراتيجي ليس الربح الفردي ، و إنما ربح الجماعة، شعارهم في ذلك “نربح و يربح الآخرون” هذا المبدأ الذي يرى الحياة ساحة تعاونية استيعابية لا تنافسية تناحرية٠
و يحصدون نتيجة ذلك الغراس سيادةَ أخلاق الإيثار والتضحية، و انتشارَ ثقافة التطوع و قيم الخدمة المجتمعية ٠
و تبدو ثمار هذه التربية الراقية بادية للعيان في احترام الطفل الياباني للدور( الطابور)، في حرصه على نظافة الأماكن العامة و على العناية بمدرسته ( التي ليس فيها عمال نظافة، بل يقوم التلاميذ مع معلميهم بتنظيف فصولهم الدراسية و مرافقهم الصحية )٠٠٠ و تظهر كذلك في الطريقة المثلى التي تدار بها الشركات اليابانية، و التي حسنت إنتاجيتها و تنافسيتها العالمية بسبب خصائصها المتميزة و منها :
– الانضباط الذاتي للعامل الياباني الذي يعمل من تلقاء نفسه و بدون توجيه أو رقابة من رئيسه
– طريقة اتخاذ القرارات حيث تعتمد الشركات اليابانية على القرار الجماعي المشترك الذي يسهم فيه العمال و المدراء على حد سواء
– منهج الإدارة الأبوية حيث أن إحدى وظائف المدير في اليابان تربية و إعداد مدراء المستقبل، و المدير يتعامل مع أعضاء فريقه كأبنائه؛ يشملهم بعطفه و يسهم في حل مشكلاتهم العائلية٠٠٠ و لا غرابة أن يبادل العامل مديرَه بل و مؤسسَته عطفا بعطف، فمثلا عندما خسرت شركة مازدا سنة 1970 و شركة برانيف سنة 1980، وافق العمال عن طواعية على تحمل قسط من هذه الخسارة، فتنازل موظفو مازدا عن 50٪ من رواتبهم، و تنازل موظفو برانيف عن 90٪ من رواتبهم لسد عجز الشركتين !
إن عمل الفريق و التشاور الجماعي، و الإدارة الأبوية التي تشرك الجميع في القرارات الكبرى و الصغرى، كل ذلك أسهم في رفع درجة الولاء للمؤسسة، و التضحية من أجلها في السراء و الضراء٠
و يذكر ياسوماسا تومودا الأستاذ في جامعة أوساكا اليابانية أن “أول ما فعلته اليابان إثر هزيمتها في الحرب العالمية الثانية هو مراجعة القيم التقليدية التي كانت تؤكد على الطاعة العمودية في المجتمع، أي طاعة الصغار للكبار، و طاعة الأتباع للقادة، الأمر الذي أدى إلى مراجعة نظام التربية اليابانية خاصة التربية الأخلاقية شوشين shushin و إعطاء العناية اللازمة لقيم الديمقراطية و الحرية و علاقة الحاكم بالمحكوم، و الوقوف من موروثات التقاليد موقف الناقد العالم لا التابع المنفعل، و التأكيد على القيادة الجماعية و العمل الجماعي، و توسيع مفهوم الأخلاق ليشمل ميادين السياسة و الإدارة و الثقافة و العلم٠” ( كتاب التربية و التجديد و تنمية الفاعلية عند العربي المعاصر/ د٠ ماجد عرسان الكيلاني٠)
الأمم الواعية عندما تتعرض لأزمة معينة فإنها تقوم بتشخيص القيم الثقافية السائدة و تحليل النظم التربوية القائمة، فتحدد موطن الداء و تقوم بمعالجته على الفور٠
هذا ما قامت به اليابان – الدولة التي خرجت مدمرة من الحرب العالمية الثانية، الأرخبيل الصغير شحيح الموارد الطبيعية، كثير الآفات الطبيعية من براكين و زلازل – فما فتئت أن استعادت عافيتها في وقت وجيز ، و غدت من الأمم المتصدرة على مسرح الحضارة ٠
لقد اعتنت بالإنسان، و عمَّقت فيه الولاء للجماعة٠
يا ليتنا نعتبر!
خديجة رابعة