لا يأس مع الصبر واليقين – رشيدة المنصوري
الحمد لله رب العالمين، ناصر المستضعفين وقاهر الطغاة، والصلاة والسلام على رسول الإنسانية، من صبر على أذى الخلق، مطمئنا إلى وعد ربه على خط اليقين حتى نصره ربُه.
يقول الله عز وجل: ﴿فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وعۡدَ الله حَقّ وَلَا یَسۡتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِینَ لَا يوقنون﴾ [الروم 60]
قال الطاهرين عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير:
“وجُمْلَةُ ِ ﴿إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ تَعْلِيلٌ لِلْأمْرِ بِالصَّبْرِ وهو تَأْنِيسٌ لِلنَّبِيءِ بِتَحْقِيقِ وعْدِ اللَّهِ مِنَ الِانْتِقامِ مِنَ المُكَذِّبِينَ ومِن نَصْرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
والحَقُّ: مَصْدَرُ حَقَّ يُحِقُّ بِمَعْنى ثَبَتَ، فالحَقُّ: الثّابِتُ الَّذِي لا رَيْبَ فِيهِ ولا مُبالَغَةَ.
والِاسْتِخْفافُ: مُبالَغَةٌ في جَعْلِهِ خَفِيفًا فالسِّينُ والتّاءُ لِلتَّقْوِيَةِ مِثْلُها في نَحْو: اسْتَجابَ واسْتَمْسَكَ، وهو ضِدُّ الصَّبْرِ. والمَعْنى: لا يَحْمِلَنَّكَ عَلى تَرْكِ الصَّبْرِ.
والخِفَّةُ مُسْتَعارَةٌ لِحالَةِ الجَزَعِ وظُهُورِ آثارِ الغَضَبِ. وهي مِثْلُ القَلَقِ المُسْتَعارِ مِنِ اضْطِرابِ الشَّيْءِ لِأنَّ آثارَ الجَزَعِ والغَضَبِ تُشْبِهُ تَقَلْقُلَ الشَّيْءِ الخَفِيفِ، فالشَّيْءُ الخَفِيفُ يَتَقَلْقَلُ بِأدْنى تَحْرِيكٍ، وفي ضِدِّهِ يُسْتَعارُ الرُّسُوخُ والتَّثاقُلُ. وشاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعاراتُ حَتّى ساوَتِ الحَقِيقَةَ في الِاسْتِعْمالِ.
ونَهْيُ الرَّسُولِ عَنْ أنْ يَسْتَخِفَّهُ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ نَهْيٌ عَنِ الخِفَّةِ الَّتِي مِن شَأْنِها أنْ تَحْدُثَ لِلْعاقِلِ إذا رَأى عِنادَ مَن هو يُرْشِدُهُ إلى الصَّلاحِ، وذَلِكَ مِمّا يَسْتَفِزُّ غَضَبَ الحَلِيمِ، فالِاسْتِخْفافُ هُنا هو أنْ يُؤَثِّرُوا في نَفْسِهِ ضِدَّ الصَّبْرِ، ويَأْتِي قَوْلُهُ تَعالى ﴿فاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأطاعُوهُ﴾ [الزخرف: 54] في سُورَةِ الزُّخْرُفِ، فانْظُرْهُ إكْمالًا لِما هُنا”.
ويقول سيد قطب رحمه الله في تفسيرها: “يأتي الإيقاع الأخير في صورة توجيه لقلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومن معه من المؤمنين، إنه الصبر وسيلة المؤمنين في الطريق الطويل الشائك الذي قد يبدو أحيانا بلا نهاية! والثقة بوعد الله الحق، والثبات بلا قلق ولا زعزعة ولا حيرة ولا شكوك.. الصبر والثقة والثبات على الرغم من اضطراب الآخرين، ومن تكذيبهم للحق وشكهم في وعد الله، ذلك أنهم محجوبون عن العلم محرومون من أسباب اليقين. فأما المؤمنون الواصلون الممسكون بحبل الله فطريقهم هو طريق الصبر والثقة واليقين. مهما يطُلْ هذا الطريق، ومهما تحتجب نهايته وراء الضباب والغيوم! وهكذا تختم السورة التي بدأت بوعد الله في نصر الروم بعد بضع سنين، ونصر المؤمنين. تختم بالصبر حتى يأتي وعد الله والصبر كذلك على محاولات الاستخفاف والزعزعة من الذين لا يوقنون، فيتناسق البدء والختام. وتنتهي السورة وفي القلب منها إيقاع التثبيت القوي بالوعد الصادق الذي لا يكذب، واليقين الثابت الذي لا يخون..” في ظلال القرآن (5/ 2778)
﴿فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّ وَلَا یَسۡتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِینَ لَا یُوقِنُونَ﴾ الخطاب لمن؟ إنه لخير البشر وأفضل الرسل وأفضل الأنبياء وهو لأمته تبعا، والله سبحانه ما أوصى نبيه بالصبر إلا لتعلَم أمتُه أنه لا بد من الصبر، لابد من التمحيص والاختبار وأنه لا تمكينَ بلا صبر.
والأمر بالصبر يتكرر كثيرا في القرآن الكريم لأن الطريق طويلة، شائكة، متغيرة، ثم يأتي النصر والتمكين. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة فقد أوذي كثيرا وكذلك جميع رسل الله، ومهما شكك المشككون واستخفَ المستخفون فإنهم يخيبون ويخسرون لأن وعد الله حق (الوعد هو البشارة بخير آت لم يأت زمانه الآن وإنما هو آت لامحالة).
قال الله سبحانه: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51] ولو ذهبتِ الأنفسُ والأرواحُ، فإن ما عند الله خير وأبقى، ولو انتصر العدو في ظاهر الأمر فان العاقبة لعباد الله المؤمنين.
هكذا يا أمتي درب الهدى كله شوك لأصحاب اليقيـــــــن
لا يموت الحق مهما فعلوا بل سيبقى في حلوق الظالمين
إن ما نرى من تكالب الأعداء على أولياء الله المجاهدين الصابرين الثابتين في زمن تخلف فيه الكثير، له مَثل سابق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال له ربه: ﴿اصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ [غافر 77]
إن المؤمن لا يشك في وعد الله ويعتقد انه واقع لامحالة مقتديا بالرسل، ويصبر على طاعة الله وعلى أقدار الله، وهو على يقين من وعد ربه، واليقين كما ذكر ابن الجوزي:”ما حصلت به الثقة و ثلج به الصدر من العلم”، و قال عنه الشيخ الشعراوي رحمه الله: “اليقين هو الإيمان الذي لا يتزعزع ليصير عقيدة لا تطفو إلى العقل لتُناقش من جديد”.
وقال ابن أبي حاتم: … عن عكرمة، قال: “لما نزلت ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [ القمر: 45] قال: قال عمر: أيّ جمَع يهزم؟ أيّ جَمْع غلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يثب في الدرع، وهو يقول: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ فعرفت تأويلها يومئذ.
أيها المهموم إن الذي يُفرج الهمّ هو الله، أيها المكروب إن الذي يُنفس الكرب هو الله، أيها الضعيف إن الذي يمنحك القوة هو الله، أيها القوي إن الله أقوى منك، أيها المتجبر ويلك من الجبار جل علاه.
هَوِّن عَلَيكَ فَكُلُّ الأَمرِ يَنقَطِــــعُ وَخَلِّ عَنكَ عِنانَ الهَمِّ يَندَفـــــــِعُ
فَكُلُّ هَمٍّ لَهُ مِن بَعدِهِ فَـــــــــرَجٌ وَكُلُّ أَمرٍ إِذا ماضاقَ يَتَّسِـــــــعُ
إِنَّ البَلاءَ وَإِن طالَ الزَمانُ بِــهِ فَالمَوتُ يَقطَعُهُ أَو سَوفَ يَنقَطِعُ
اللهم صَبِرنا وثَبتنا على الدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم لنا إخوة يحاربهم الجميع واجتمعت عليهم السهام فانصرهم يا رب. وحسبنا الله ونعم الوكيل.