لأول مرة يتوقف قلمي.. عن غزة أتحدث – شيروان الشميراني

منذ أن منَ الله عليّ بموهبة الكتابة في الفكر والتحليل في السياسة، رأيت نفسي لأول مرة أن قلمي يتوقف وعجز عن الكتابة، حتى الرحمة والعون الإلهي الذي ينزل عليّ وأنا أحس به خير إحساس وأنا أكتب لم أكن أتجرّأ الإعتماد عليهما لأن تلك تنزل بعد الشروع في الكتابة التي ما كان بابه يفتح لي، ليس لأن الإحساس قد تبلّد، ولا لأن الشعور قد تجمّد، ولا لأنّ الحبر قد انتهى، ولا لأنّ الدافع قد توقّف، لكن لأن المصيبة كانت أكبر، ولأن الفتنة كانت فوق الطاقة، ولأن البلاء كان أعلى من القدرة، ولأن المشاهد كانت فوق التخيّل، حتى الخيال لم يكن ليصل إلى توقعها، ولا العقول قادرة على تصورها، عندما كنتُ أرى حالي وحال الآخرين من أبناء هذه الأمة وننظر إلى الصور التي لو لم تكن نعمة آلة التصوير، ولولا أن هيأ الله أسوداً من عباده، فإنّ العقل لم يكن ليتقبلها لو جاءت تلك المشاهد المفجعة على لسان راويٍ، أو عبْرَ مِدادِ حِبرِ مؤرّخ.

هنا بدأت بالشعور بأن الذي في الميدان هو الأعلم بالحال، ولابدّ من وصول الاحاسيس والإندماج الروحي الى مستوى الإختلاط مع المُبتلى، وبالتالي أنّ المفتي يجب أن يخرج من ساحات القتال ليحدّد الطريق، وهنا بدأت أرى بعيني الباصرة معاني الآية القرآنية التي يقول فيها رب العالمين ” لولا أن نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون”، فالفقه هنا وفي مثل هذه الحالات ليس هو فقه الأوراق ولا فقه رفوف المكتبات، ولا فقه محاريب الجوامع، ولا فقه دراسات المعاهد، هو فقه الساحة، فقه المرابط، فقه المقاتل، فقه من نفرَ ليرى بالعين ثم ينقل، وليس فقه البطران، المتلقب بين الأحضان. وبما أنّ الآخرين هم هكذا ومستوى الإحساس أقلّ بكثير من حجم الهول فلم يقدرو الإرتفاع الى مستواه.

لأسابيع وشهور بدأت اسأل: هل تبلّد الإحساس؟ هل تمكن الطغيان البشري من تعويدنا على رؤية أهلنا يموتون، والتعايش مع سقوطهم في الشوارع؟ يموتون ليس لأنهم يقتلون بالأسلحة الغربية، إنما يموتون لأنّهم جوعى، ممنوع عليهم الأكل ليشبعوا، وممنوع عليهم الشرب ليرتوا، ممنوع عليهم السكن للإيواء، يموتون لأن المعدة خاوية، ولأن العظام تتفتت، ولأن الأدمغة تتوقف، يموتون لأن الأجساد لم تعد قادرة على الوقوف، ولم تعد قادرة على السير، ولا على الإضطجاع، لا شريان بقت، ولا عظام تحملت، ولا جلود قاومت، إنهم يموتون من الجوع، إنهم يموتون من العطش، إن إجسادهم تذوب، حيّ بعظام المقابر، أحياء بأجساد محنطة.

إنّ ما يحدث لأهل غزّة، فيه من التوحش ما يفوق وحشية الأمازون، لقد قرأت كتاب “جون تيلور” عن حياته بين حيوانات ووحوش أمازون لمدة ست سنوات، بين الثعابين والحيايا والعقارب والقردة والخناير والغول، كان في العيش معهم من القوانين المرعية أكثر مما هي لدى أهل الحضارة الحديثة، وفيها من الأصول أكثر مما هي لدى أصحاب القوانين والمعاهدات الموسومة بالإنسانية، وفي التعاون بين أهل قبائل الغابات أكثر مما هو بين عشير أهل غزة، إنّ أهل الجاهلية السابقة أكثر نخوة من أهل العلم الحديث، أبناء التخلف أسمى شعوراً من أهل التمدن.

والآن، من هو الجريء الذي يقدر على شرح ” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى”؟ فالحصار المطبق على غزة ليس من الكيان المحتل فحسب، ليس هو الجهة الوحيدة التي قررت مذبحة جماعية وتجاهر بها، وتحويل الأرض الى مقابر الإبادة العرقية وتتبناها، لكن أهل العشير هم جزء منه، أهل العشير الذي يحيط بهذه البقعة الصغيرة جداً من الأرض هم الّذين وضعوا حبال الإعدام في رقبة الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين، الدائرة الجغرافية المحيطة بأهل غزة أضحت الحبال السميكة على أحشاء سكانها ليموتوا، قالته “غولدا مائير”: – “إن محمداً قد مات وخلف من بعده بنات”، ربما خلفه أدنى قوة من نعومة البنات، فقد رأينا من البنات بطولات ما تخجل أمامها رجال لا يستحقون من وصف سوى أنهم ذكور.

من الذي يغلق الحدود؟ ومن القادر على فتح الحدود؟ والله إن المسلمين الذين هم على بعد كبير جغرافياً من حدود غزة، قد يجدون العذر أنهم عُجّزْ عن فعل الواجب، لكن ما بال القريب؟، ما لهذه الأمة التي تتباهى بأنها وليدة؟ وتتفاخر بوسامة أبنائها، وتحرر بناتها؟ ما لهذه الشعوب التي تسمع صحيات الجوعى، وآهات الثكلى من شدة قربها من الأرض المحروقة؟ مالذي حدث لهم؟

إنّ القضية هنا ليس الدين فإنه مشوش، ولا التدين فإنه متدني، ولا العقيدة فإنها باردة، ولا الإنتماء المدرسي فإنه مشتت، فقد سبق أحرار الغرب من الملحدين أهل الايمان، وقد سبق أهل الفكر البشري أهل الفكر السماوي في الغيرة والشهامة، إن القضية هنا هي الإنسان، هي القربى في الدم، هي الحسّ الإنساني الذي يعتمد عليه القرآن في إثارة النخوة والشعور الوحدوي، هي حلف الفضول الجاهلي الذي كان مما يفتخر به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حياته قبل النبوة.

نحن في ظل مذبحة غزة نعيش في عالم متخلف بالمعيار الإنساني، في ظلها تظهر العصور الوسطي أكثر تنويراً من هذا العصر الذي يتلجج بتنوير الفضاء الأسود.

لقد عدنا نتيجة الاحداث التي تلمّ بنا إلى حياة الغاب، حياة سيطرة القوة الباغية، حياة أن القوي هو الحاكم والحاكم القوي هو القانون والأصول، تخطت عقلية التوحش المعاهدات الدولية، والاتفاقيات الإنسانية، لا يخجل الانسان الحديث من الدوس على إنجازات عصوره التي يصفها بالتنوير، تخيلوا.. تخيلوا أن الأمم المتحدة ترفض إعلان المجاعة في غزة.. يا لله..

ربما في كلمات السيدة فراشيسكا ألبانيز- الإيطالية الأصل- المقررة الخاصة للأمم المتحدة لحقوق الانسان- أدق تعبير لمعاني الحرية والكرامة، فرضت الولايات المتحدة عقوبات عليها لأنها التزمت بميثاق حقوق الإنسان تجاه أهل غزة، وكانت تلح إلحاحاً شديداً على أن الانسان في غزة تواجه الموت بسبب المجاعة، ونقلت صور الأطفال وهم يسقطون أرضاً بأجساد منهكة خائرة لا قوة فيها، متهمة سطات الاحتلال بإرتكاب إبادة جماعية بحق السكان المدنين، فتحركت سلاطين حقوق الانسان في العالم الحرّ بتضييق الحركة عليها، لكنها قالت ببلاغة المرأة الحرّة :” لا أخاف على حرّيتي وإنما على الولايات المتحدة أن تتحرر”، صدقت مع مبادئها التي تربت عليها، ولم تبرر تحت أي ذريعة دبلوماسية أو مصلحية شخصية أو سياسية أعمال القتل بحق الفلسطينيين، جسدّت البعد الجواني لمعاني الحرية التي عجز المسلمون عن تجسيدها إلا بين أوراق الكتب.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى