كيف نحمي مؤسساتنا التعليمية من محيطها الخارجي؟ – الحبيب عكي
من الاختلالات الخطيرة التي تعاني منها منظومتنا التربوية، غياب النموذج المعياري للمؤسسة التربوية وأهم مرافقها، ومكان تواجدها، ومحيطها الخارجي، وإطارها البشري.. إلى غير ذلك، وبالتالي، فإذا بمؤسسة وسط الأحياء وأخرى خارجها وبعيدة عنها، وإذا بمؤسسة في ساحة ذات امتداد أفقي وأخرى ذات الامتداد العمودي في عمارة، وإذا بمؤسسة ذات سور يحميها وأخرى بدون سور ولا حماية 3 أو 4 عقود مضت، وإذا بمؤسسة ذات حدائق وملاعب وقاعات وساحات وأدوات، وأخرى قد تكون في مجرد مأرب مخنوق، خاصة إذا تعلق الأمر بكتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم والتعليم الأولي قبل أن تتحول بعض مآربه الآن إلى داخل المؤسسات.
وهكذا نملأ الفراغ بما كان وكيف ما كان لنجني بعدها نتيجة كل ذلك في الاضطراب والهشاشة ومؤسسات يؤثر عليها من طرف المحيط الخارجي بدل أن تؤثر هي عليه، ومؤسسات تصنعها وتوجهها الظروف الاقتصادية والظواهر الاجتماعية بدل أن تصنعها هي وتوجهها.
في هذه الظروف المخلة، كثيرا ما تجد مؤسسة تربوية محاطة ببعض العربات ذات المبيعات المتنوعة والممنوعة، في الظاهر حلويات، بياع الشمس، مكسرات، وفي الخفاء، سجائر بالتقسيط وربما مخدرات “جوانات”، وكحوليات رديئة (ماحيا) بالكأس والنصف كأس والعبوة والنصف عبوة، وأقراص مهلوسة بمختلف الجرعات وغيرها من الممنوعات..
يتعود التلاميذ على التبضع من هذه العربات بالدفع المباشر وبالسلف ومذكرة الديون ليملئوا الفصول بأزبال مقتنياتهم بلا خجل، ويشوشوا على الحصص الدراسية بلحظات استراق المأكولات وتناول المشروبات والممنوعات خاصة في مراهقة الإعدادي وعناد الثانوي، ضاربين عرض الحائط بكل القوانين الداخلية للفصل والمؤسسة، ناهيك عما يترتب عليهم من الديون التي قد لا تؤدى إلا بالعراك أو مقابل غواية، عربات وصناديق قد تجد عند القدامى والمتنفذين منها كل شيء حتى أوراق الدخول عند الغياب، حقيقية أو مزورة المهم أنها للسمسرة، وتجد عندها نسخا من التمارين والفروض والنسخ المصغرة للغش حسب الدفع والطلب والمواد، ناهيك عن التلاميذ في الأوساط الحضرية وهم في طريقهم إلى المؤسسات قد يمرون على كل أنواع المحلات والملاهي التي تحاول المدرسة إثارة انتباههم إلى ضرورة تجنبها والابتعاد عنها والحذر من الوقوع في حبائلها.
أبواب العديد من المؤسسات، محج للعديد من الغرباء والمغرضين، يتصيدون التلاميذ والتلميذات الذين أغلق في وجههم الباب، أو ينتظرون حصة دراسية بعد مرور الأولى أو الثانية، هناك تحدث كل الاستقطابات والإغراءات والتهديدات..، ساحة لاستعراض العضلات وأقبح العادات كالتدخين والتحرشات، كرنفال الموضة وغريب التسريحات والأزياء التي تنتقم من الوزرة وحشمتها، ومحطة لسيارات الذئاب كل نهاية الدوام في المساء، وكم من تلميذة مغفلة كانت بداية ضياعها ما استحلته طيشا وتغريرا من ركوب مع غريب لم يقد بها إلا نحو متاهات الضياع، لا دراسة ولا عمل، ولا حب ولا زواج..، ورغم حضور شرطة الآداب اليوم في دورياتها – مشكورة – بأبواب المؤسسات، فإن المراقبة ليست دائمة، ثم إن عناصر العصابات لها أساليبها وللتلاميذ الضحايا المنحرفين الذين قد يشتغلون معهم ويروجون لهم وسط المؤسسة لهم أيضا أساليبهم المضادة.
حدث مرة في مؤسسة تعليمية أن بعض التلاميذ والتلميذات يتغيبون عن الدراسة كل مساء السبت يعني آخر الأسبوع، فلما بحث في الأمر، وجدوهم يذهبون إلى قفص (حفرة) وهناك يظلون طوال المساء على الرقص والغناء في طقوس شيطانية ماردة، بل تطور الأمر إلى أن سافروا مرة بمبادرة مجنونة منهم إلى مدينة أخرى بعيدة، دون علم المؤسسة ولا إذن الآباء، فقامت القيامة وأخذ الجميع يبحث عنهم والكل يعتقد أنهم مختطفون ينبغي التصريح بهم في برنامج مختفون، لعل وعسى.
ظواهر خطيرة إذن، وتصرفات مجنونة تهدد دراسة التلاميذ وبراءة وعفة التلميذات، وقيمهم ومستقبلهم وأصلها من محيط المؤسسة ونوعية المؤسسة، إذا لم تكن بدون سور ولا باب ولا بواب، أو تراخت أو ربما فقط غلبت إدارتها في حفظ هيبتها وحماية روادها، وأحيانا قد تطال هذه الخطورة حتى المعلمين والمعلمات، حينما يقطع الفيضان طريقهم أو تحتجزهم الثلوج وسط البرد القارس أو يعترض “مشرمل” طريقهن أو يهجم على إقامتهن المدرسية المهجورة ليلا أو نهارا في حضورهن أو غيابهن، وهكذا وعلى كل حال، تظل الأخطار قائمة والتربية مهددة فما العمل؟
1- لابد من الادراك الجماعي لحجم وخطورة الظاهرة، والتجند الجماعي أيضا لمحاربتها أسرة ومدرسة، أساتذة، وتلاميذ، فاعلين ومتدخلين، شركاء ومسؤولين..، شعار الجميع: ” يدا في يد لحماية مدرستنا وقيم ناشئتنا”.
2- ضرورة استثمار جميع أشكال التدخل الممكنة والمسعفة والتنسيق بينها وبين أعضائها، وعلى رأس ذلك:
- تجنب طرد التلاميذ من الفصول ما أمكن، إلا لضرورة قصوى، وبالطرق القانونية المسؤولة.
- ضرورة حفاظ الإدارة بالمطرودين في قاعة المداومة، ومع مرشد اجتماعي نفسي إن أمكن.
- تجنب استعمالات الزمن ذات ثقوب بينية، وتعويض الأستاذ عند الغياب ولو بحصة الدعم.
- قيام جمعية الآباء وغيرها من جمعيات المجتمع المدني خاصة ذات البعد الوطني أو التي في محيط المؤسسة، بحملات التحسيس والتوعية وإرشاد التلاميذ إلى حسن التصرف والسلوك.. وحمايتهم من عصابات المنحرفين وسيارات الذئاب، وفتح حوار عمومي وترافع وطني في ذلك (تشخيصا ومحاربة واقتراح قوانين ومشاريع تربوية واجتماعية)، بل وتقديم عرائض تنديدية جماعية ووقفات احتجاجية – عند اللزوم – على مستوى المؤسسات والمديريات والأكاديميات وغيرها.. فالظاهرة موجودة وتستفحل أردنا الاعتراف بها أو إنكارها الذي لا يجدي.
- تفعيل خلية الانصات و فرق اليقظة والطوارئ والشرطة المدرسية من التلاميذ النظراء والإدارة.
- التعاون مع شرطة الآداب المدرسية، والتبليغ عن العناصر المهددة للأمن والسلامة المدرسية، وكذلك التعاون مع الإعلام المحلي والوطني التقليدي والافتراضي.. الذي يمكنه بلورة العديد من برامج التحسيس والتوعية، وربورتاجات المواكبة من عين المكان وحوارات مع المسؤولين والمختصين في شتى المجالات التي تهم الظاهرة والتربية والقيم والصحة والقانون والنشء..
- قيام الجماعة المحلية بدورها بالعناية بمحيط المؤسسة، وإضاءته حتى لا يكون نقطة سوداء.
- مراقبة الآباء لأبنائهم والتواصل معهم ومع المؤسسة بشأنهم كلما ظهرت عليهم أعراض غير عادية.
إن المدرسة وعلمها وأخلاقها، هي من ينبغي أن تقود المجتمع والشارع والإعلام وليس العكس، ولكن لن يكون هذا بمثل هذه المحيطات المدرسية الموبوءة، ولا بغيرها من المحيطات الإعلامية الفاسدة (المروجة للتفاهة) ولا السياسات العمومية المستهترة بقضايا الشباب وقيم المواطنة. بل بالعكس، كل ذلك سيزيد من خطورة هذه الجرائم، كما يحدث الآن، إذ يقوم هؤلاء المراهقون بتصوير مغامراتهم الوقحة بهواتفهم ويضعونها في مواقع التواصل الاجتماعي، كي تصبح الفضيحة بجلاجل؟
حدث في أمريكا أن آباء في ولايات منعوا بناتهم من الذهاب إلى المدرسة نظرا لما يتعرضن له في محيطها الموبوء من عنف وتحرش وابتزاز وإجبار على تعاطي المخدرات والدعارة.. وحدث في أمريكا أيضا أن رفع العسكريون الاستراتيجيون ناقوس الخطر غير ما مرة ربما آخرها سنة 2014 إذ وجدوا أن 70% من الشباب الأمريكي لا يصلح للتجنيد التطوعي الذي سنه “نيكسون” سنة 1969، بسبب السمنة و تاريخه الإجرامي و المشكلات الجسدية لتعاطي المخدرات وفتور ألعاب الفيديو ومواقع التواصل الاجتماعي أو عدم الحصول إطلاقا على شهادة الثانوية العامة.
فحذار من التلاعب بقيم الأطفال والشباب وصحتهم النفسية والعقلية، فإنها قيم وصحة هذا الوطن وهذه الأمة، وصدق من قال: “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا”.