كيف أحسك الأكبر في قلبي الصغير؟؟
كيف السبيل للوصول إليك يارب؟ كيف أحظى بالقرب منك يا الله؟ كيف أحسك الأكبر في قلبي الصغير الضعيف؟ أسئلة كثيرة تؤرقني ولكنه أرق من نوع خاص. أرق تجد فيه روحي مبتغاها، فهي تحاول الارتقاء إلى من خلقها وسواها وجعل سكنها في هداها. بحثت كثيرا عن الإجابة فهداني ربي إلى البحث في سيرة خير البشر. ألم يكن أقرب الناس إلى ربه؟ إذا لابد أن أجد في تتبع أثره جوابا يشفي صدري ويطمئن نفسي.
أول ما بدأ رسول الهدى رحلته بدأها بالتحنت في غار حراء متأملا متدبرا. عما كنت تبحث يا رسول الله؟؟ كانت جلسة خلوة وبحث عن الحقيقة، حقيقة تطلعه على معنى الوجود ومعنى الارتقاء. لم يكن تفكيرك عاديا يا حبيب الله وإلا لارتضيت العيش كباقي البشر تأكل وتشرب وتنام وتستمتع بمتع الحياة الفانية، لكنك كنت تبحث عن معنى أكبر وأعمق من كل هذا، معنى يوصلك إلى الرقي الإنساني ويخرج بك من عالم الأرض إلى عالم السماء، من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح. تأملت وربما تألمت أيضا في رحلة البحث هاته التي كلفتك الكثير، مال ووقت وجهد فكري ونفسي وبعد عن الأحبة. تضحيات كثيرة تلك التي بذلتها في سبيل الحصول على جواب يريح القلب وتصفو معه النفس.
فكان أول درس أتعلمه منك يا حبيبي يا رسول الله أن من أراد الوصول عليه تقديم الثمن، قد يكون هذا الثمن جهدا، وقد يكون وقتا، وقد يكون مالا وقد يكون فراقا لمن نحب. ويبقى الأساس تجرد النفس وتحررها من كل القيود، قيود التعلق بدنيا بائدة أو متع زائلة، من رغب في القرب منه سبحانه فعليه أن يصبح طائرا محلقا في السماء تنفض أجنحته غبار الاستعباد لغير الله، فلا سلطان لهوى أو شهوة أو نفس أنانية.
ثم يتبع هذا التحرر تحرر آخر من قيد الكسل، فها أنت يا أكرم الخلق في كل مرة تحمل زادك وتصعد الجبل، صعودا يرتقي بك إلى العلا ويجذبك إلى نور السماء فتعرج روحك إلى حيث لا تعب ولا نصب فتبدد كل الآلام وتضمد كل الجراح، لأن طالب العلا لا يركن لراحة أو يعيش على أمنية، فالأماني لا تبلغ بالقعود والكسل وإنما بإحسان العمل (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، عملت بجد وتزينت بالصبر حرصا منك على إكمال المشوار فكافأك المولى جل في علاه وجاءك المدد الرباني ليوجهك الوجهة الصحيحة (فلنولينك قبلة ترضاها) التي ترضيك وتحول نار الحيرة إلى نور رباني يجتاح قلبك ويطمئنه. درس آخر أتعلمه منك يا نور القلوب وبهجتها، أن الطريق إليه سبحانه تحتاج عملا مزينا بصبر جميل وبعزم ثابت على بلوغ الهدف .
ثم يقول لك رب العزة “اقرأ ” ويحل اللغز فبالعلم والمعرفة تنجلي الضبابية عن الصورة وتبدو أكثر وضوحا. فمن عرف الله وتدبر في آلائه ومخلوقاته ازداد قلبه تعلقا به سبحانه، فيغشاه نور من الله ينير بصره وبصيرته فيحصل على الجائزة من رب كريم (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي بها). ومن تعلق قلبه بمولاه لا يجد حلاوة إلا في القرب منه والتقرب إليه بما يحب. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف بين يدي ربه حتى تتفطر قدماه وهو راض عليه السلام في قمة السعادة يقول لمن يسأله (أفلا أكون عبدا شكورا). وكيف لا تشكر يا حبيب الله من أنعم عليك بالهدى والتقى وأبلغك منزلة القرب منه وأنار قلبك بنوره وأسبغ عليك رحماته (ولسوف يعطيك ربك فترضى) فكان أكبر عطاء منه سبحانه تعلق القلب به وحده دون سواه. حتى وأنت على أبواب الرحيل تخير، لم تتردد في الاختيار (بل الرفيق الأعلى) فاخترت لقاء من ملأ القلب حبه.
دروس كثيرة نستقيها من سيرتك يا خير البشر تختصر لنا المسافات وتنير لنا الطريق. فمن تتبع هديك أفلح ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم إن الله غفور رحيم).
ومن عرف اغترف، فلنغترف حبا لله ومن الله في لحظات نعيشها بين يديه وتدمع أعيننا خشية منه سبحانه. ولنغترف قربا منه في سجدة نسجدها تذللا وخضوعا وإقبالا عليه عز وجل. ولنغترف سموا في آيات نتلوها ونتدبرها فتغشانا رحمات منه تبارك وتعالى. ولنغترف رقيا في صحبة صالحة تذكرنا به وتقربنا منه زلفا. ولنغترف إحسانا في بر لآبائنا وأمهاتنا نبتغي به وجهه جل في علاه. ولنغترف تقربا من خلقه في كلمة طيبة ترفعنا إليه. ولنغترف شفاء للصدور في تسبيحة ينجلي معها كل ضيق يصيبنا. ولنغترف تحررا في تكبيرة نعظم بها الله في أنفسنا فيصغر ما دونه فيصبح الله الأكبر في قلوبنا، الأكبر من كل شيء ومن كل أحد ومن كل قول ومن كل الوجود.
الزهرة الكرش