كورونا ومأزق القيم المادية – بنداود رضواني
” المستبدون لا تهمهم الأخلاق إنما يهمهم المال ” (عبد الرحمن الكواكبي)
أيهما مركز الكون: هل هو الإنسان أم المادة ؟
الفلسفة الغربية وتجلياتها العملية منذ اليونان الأوائل وإلى اليوم لم تنفك عن تبجيل المادة والإعلاء من شأنها حتى أضحت في الوعي الجمعي الغربي السر المقدس لهذا الكون ومركزه، وجوهر العالم و لبه، أما القيم الفطرية والإنسانية فقد تلاشت أمام ضراوة المادية المتوحشة، إذ النقطة الأساس التي تنطلق منها القيم الغربية هي الأشياء، وهي النقطة نفسها التي تعود إليها….، فالمادة عند الإنسان الغربي هي المبدأ وفي نفس الآن هي المبتغى والمنتهى.
فالنتيجة الحتمية: حضارة عدمية تشيئية لا تقر إلا بمنطق السوق المرتكز على فلسفة الربح والخسارة ولغة المصالح والأهداف القائمة على الأنانية.
ومع كل ذلك لا ننكر أن الغرب قد أصاب ما أصاب من النجاحات والإنتصارات الكثيرة، وامتد تأثيره وأثره واتسع سلطانه وسطوته في العديد من المجالات، لكن هذا لا يغطي البتة حالة الإفلاس في الجوانب الأخلاقية والروحية…ولا حالة الشيزوفرينيا المتمثلة في مأزق الإنفصام بين منجزات الحضارة الغربية وضميرها… والتي تجثم على نفسية غالبية الغربيين…، فالتفريط في الدين كمعامل أساس في المعادلة الحضارية، أفقد الإنسانية مكانتها في العلاقات داخل المجتمع الغربي، وحول الإنسان في مقابل المادة من وضعية التمركز الطبيعية إلى الهامشية…، ومن السيادة إلى العبودية…، ومن الفاعلية إلى الإنفعالية…
ومن الجلي أن أصل المأزق الأخلاقي الذي يطوق المادية الغربية عائد في المرتبة الأولى إلى استبعاد الروح من تركيبة ابن آدم، والإقتصار فقط على التفسير المادي لسلوكيات المرء وانفعالاته…، واختزال الجواب عن الأسئلة المصيرية كالغاية من الوجود ومصير الناس عقب الموت في إجابات فيزيائية وبيولوجية.
فالغرب بفلسفته التشيئية هاته وقيمه المادية يظل أكبر تحدي للإنسان المعاصر.
حرب الكِمامات…، والقرصنة في زمن العولمة !!…
يذكر وول ديورانت في فصل رومة المحررة، أن: ” رومة أرسلت في عام 230 م رجلين من أهلها إلى أشقودرة Scodra عاصمة اليريا Illyria – شمال ألبانيا – ليحتجا على هجوم القراصنة الإليريين على السفن الرومانية، فردت الملكة توتا Teuta، وكانت تقاسم القراصنة الأسلاب، على احتجاجهما بقولها “أن ليس من عادة الحكام الإليريين أن يمنعوا رعاياهم من الإستحواذ على الغنائم في البحار “. قصة الحضارة، ج 8/ ص 196.
و مع تفشي وباء كورونا صارت الكمامات المسلوبة إحدى الصور الجديدة لقرصنة “الأسلاب ” وفق تعبير الحاكمة الألبانية ” توتا “، أما ما يصدر اليوم من أخلاقيات السلب هاته فيمكن أن توسم بعولمة القرصنة أو القرصنة في زمن العولمة….، فجائحة كورونا قد عرت المنافسة الشرسة التي تشهدها حواضر الغرب للحصول على المعدات والكوادر الطبية ولو كانت على حساب معاناة العالم أجمع.
فالأمريكيون قد استولوا على شحنات من الأقنعة الواقية متجهة إلى فرنسا وألمانيا بالمزايدة على سعرها، وتشيكيون يستولون على رزم من المعدات الصحية في طريقها إلى إيطاليا، والأخيرة تصادر كمامات متجهة إلى تونس…، وإغراء بالإقامة الدائمة بل وحتى التجنيس لجلب الأطباء والممرضين من شتى البقاع للعمل في أمريكة… والوقائع في هذا الصدد كثيرة.
إنها قرصنة لا ترحم المصابين، وسطو لا يشفق على الموبوئين، فهؤلاء القراصنة تسيطر عليهم ازدواجية المعايير، إذ لطالما تغنوا بمد يد العون للفقراء والمنكوببن، لكن وباء كورونا كشف عن والوجه القبيح لأنانيتهم المقيتة ونزع القناع عن القيم اللإنسانية التي تحكم الحضارة الغربية..
لقد أضحى الفكر المادي فكرا متهالكا مع كورونا…، وتوارى رواده وأنصاره خلف جدران الصمت يتحسسون أفكارهم ويمسحون الغبار عن آراءهم القديمة لعلهم يظفرون بتبريرات منطقية، وتفسيرات معقولة لهذا الواقع المضطرب !!، ولربما – التفسيرات والتبريرات – تذيبان جليد الشك الذي بات يطبق على الوعي الغربي وتكشفان في الوقت نفسه عجز أخلاق العولمة ومدى صلاحية قيمها المادية للإنسان المعاصر.
لذا فالمأزق الذي تعيشه القيم المادية الآن لا يهم فقط زمن كورونا، بل يتعلق بالتحديات الوجودية التي تساءل الحضارة الغربية مرة أخرى، عن إمكانية ومقدرة الحضارة المادية لحل المشكلات التي تواجه البشرية في الحاضر والمستقبل؟