“كورونا” والحاجة إلى الشكر
إن النعم تدوم بذكرها وتزول بعدم شكرها، وقديما قال ابن القيم الجوزية رحمه الله الإيمان نصفان: نصف شكر ونصف صبر. وما بين الصبر والشكر يختبر إيماننا.
لم يكن يدور بخلدنا أن مفاهيم العقيدة التي في أغلبها مجردة ستخضع للاختبار في حياتنا بهذا الحجم، إن إيماننا بالله وعظمته وصحة كتابه وصدق أنبيائه ورسله، ووجود الحفظة من الملائكة واطلاعه على الغيب وما نسر وما نعلن، ومعيته معنا ” وهو معكم أينما كنتم” “وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت”، وأن وراء عالم الشهادة هناك عالم الخلود فيه تعرض الأعمال وترجع الحقوق لذويها عند مليك مقتدر، هذه وغيرها مرتكزات إيمانية تبعث في نفس المؤمن بها الطمأنينة والسكينة واليقين، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، وأن ما كان ليصيبنا لن يخطئنا وما أخطأنا ما كان ليصيبنا هي معالم عقيدة استنبطها العلماء من النصوص الشرعية ومن أقواها “ياغلام، إني أعلمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعـوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفَّت الصحف”.
إنه الإيمان بالغيب الذي هو في الأصل دائرة مظلمة لا يطلع العبد على أسرارها ولا يعلم خباياها ولا مقاصدها، لأن أغلبها من تدبير عزيز خبير حكيم. ومن الإيمان بالله الصبر على البلاء والابتلاء فقد تلقى نبينا عليه السلام دعوة للصبر لأنه تحمل قولا ثقيلا، وخاطبه رب العزة والجلال بقوله ” فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل” ” وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إننا لله وإنا إليه راجعون” بعد الحديث عن الابتلاء ” ولنبلونكم ” بشيء من الخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، هو امتحان لإيماننا الضعيف ” أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فأنا الذين من قبلهم..”، هذه مسيرة الإيمان لا بد لها من امتحان، فيكون الابتلاء بالخوف ونقص في المال وحياة الرفاهية، ويكون بنقص الثمرات وفراق الأحبة، وقلة النوم والعافية والمعافاة الدائمة، ويكون بشيوع الأمراض الجسدية والقلبية، وعدم الأمن والأمان والسلم، وتفشي الظلم وذلك له أسباب ومسببات، وينظر هل نشكر أم نكفر.
لقد من الله على الأمم السابقة بما منحهم الله من النعم فهذه قريش من الله عليها بالأمن الاقتصادي والأمني ” فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” فمن أصبح معافى في بدنه آمنا في سربه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها، ومن كان في صحة وعافية فقد ملك الدنيا، ” نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ” وكثيرة هي نعم الله علينا لا نعرف قدرها وقيمتها إلا بعد زوالها فكم من غني لم يعتقد يوما أنه سيصبح فقيرا أو أن ماله لن ينفعه في شيء بعد أن أصبح مريضا منع عنه الأطباء كل نعم الدنيا من مأكولات إلا خبز الشعير والماء فما الذي ينفعه من ماله؟ لا شيء؛ وما ينفع الناس اليوم من أموالهم وقصورهم وممتلكاتهم وهم محاصرون خائفون من فيريس لا يرى بالعين المجردة، كم نتمنى أن نعود إلى حياتنا الطبيعة ونقيم عباداتنا ونزور أقاربنا وأهلينا، ونتحرك بلا خوف، كم من سقيم أراد أن يسجد لربه فلا يستطيع أو يقوم ليله، ويصوم نهاره ويقرأ كتاب ربه فمنعه المرض والسقم، أصبحنا بفعل الوباء الذي ابتلينا به ندرك حقيقة نعم الله علينا من صحة وعافية وأمن وأمان وحرية ولذة عبادة.
إننا اليوم أحوج ما نحتاج إليه شكر النعم، “ولقد آتينا لقمان الحكمة أن أشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد” هي عبادة الشكر والصبر ” ولئن شكرتم لأزيدنكم”، مع كل شكر تكون الزيادة وتحصل البركة، ولكن “قليل من عبادي الشكور” ” واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا”.
العالم لم يعد في حاجة إلى حروب أحدثها وبلدان استعمرها ونفوس بطش بها وأسر شردها وأطفال يتمهم، ونساء اغتصبهن، وبيوت دمرها ومدن محاها … “وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا”، الإنسان عدو نفسه يخلق ما يهلك الحرث والنسل ولما عمت الفاجعة حار في الخروج منها.
فأمام باب الله على العباد الوقوف بتذلل وتضرع واعتراف بالتقصير والضعف عل الله يفرج عنا الكربات ويتجاوز عن خطايانا.
عبد الرحيم مفكير